فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 35 )
 نشرت مجلة روز اليوسف يوم 4 سبتمبر 1951 خبرا لمراسلها فى مدينة «كان» الفرنسية، حيث كان الملك فاروق يقضى إجازة أطلقت عليها الصحافة الأوروبية وصف (ليالى ألف ليلة). يقول الخبر:(شهدت مدينة «كان» فى الأسبوع الماضى أروع حفلة خيرية فى هذا العام. وقد قامت الفتيات الجميلات بجمع التبرعات لمساعدة الهيئة الخيرية التى أقيمت الحفلة لحسابها. ولقد تجلى الكرم الشرقى فى أروع صوره، ولم يحدث أن تبرع أحد من الفرنسيين أو من كبار المصطافين بمثل ما تبرع به المصريون لهذه الهيئة. فقد تبرع محمد سلطان باشا بعشرة آلاف جنيه، كما تبرع الأمير سعيد طوسون بسبعة آلاف جنيه، أما إلهامى حسين باشا فقد تبرع بخمسة عشر ألف جنيه، ثم عاد فتبرع بثلاثة آلاف جنيه اخرى.. ووقف «مصرى كبير» وقال مازحا:(مساكين الفقراء فى بلادنا.. لا أحد يعطف عليهم)، وقالت إحدى السيدات معقبة:(لا اظن ذلك فإن الذين يعطفون على فقراء بلاد أخرى بهذا السخاء لابد أن يكونوا أكثر عطفا على أبناء بلدهم). وهؤلاء الذين كانوا يبعثرون الأموال التى تحسب بحساب هذه الأيام بالملايين هم من حاشية الملك فاروق. ولم تستطع المجلة أن تذكر الرقم الذى تبرع به الملك نفسه بسبب الرقابة!
وتحت هذا الخبر نشرت المجلة خبرا آخر يقول:(إن مرعى حماد أحد أبطالنا الذين فازوا بعبور المانش بحث مع المشرف على بعثة هؤلاء الأبطال عن مبلغ خمسين جنيها لكى يعطيها لقائد الزورق الذى كان يرافقه فى رحلة العبور، ولكن لم يجد فى جيب المشرف (الدكتور صبرى بك) غير أربعين جنيها فقط، وكان عنوان الخبر (بطل المانش يبحث عن 50 جنيها)!
يقول الكاتب الكبير الراحل حلمى سلام فى كتابه (قصة ملك باع نفسه للشيطان) إن الصحف الحرة التى حاربت قوى الشر المتحالفة: الملك، والفساد السياسى، والظلم الاجتماعى، والعبث، والفوضى، لم يكن عددها يزيد على ست هى: روز اليوسف، واللواء الجديد، والاشتراكية، والكاتب، والملايين، والدعوة، ولم يكن عدد (الكُتاب الأحرار) يزيد على عدد أصابع اليدين. كان الملك وحاشيته يبعثرون الملايين فى كابرى، والريفيرا، بينما الملايين من أبناء الشعب المصرى يتضورون جوعا.
ومن كابرى أصدر الملك أوامره للحكومة فى القاهرة لكى تخلصه من هذه الصحف ومن هؤلاء الكُتاب. ولم تتردد الحكومة. وكانت الحكومة قد أصدرت فى سنة 1950 قانونا يحظر نشر (أخبار القصر) سواء بالكلمة أو الصورة أو الرسم أو الرمز إلا بعد استئذان وزير الداخلية ويعاقب من يخالف ذلك بالسجن ستة شهور. وقالت الحكومة فى المذكرة الايضاحية للقانون إن الهدف هو (حماية للأسرة الكريمة - أسرة محمد على - وما لها من مقام ممتاز فى البلاد). وكان صدور هذا القانون بعد سلسلة من الفضائح ارتكبتها الملكة نازلى - والدة فاروق - أثناء إقامتها فى أمريكا ونشرتها الصحف الأمريكية والأوروبية ونقلت عنها الصحف المصرية بعضها.
***
أما ما حدث فى يوليو 1951 فكان أشد عدوانا على حرية الصحافة. كان الملك يقضى شهر العسل - مع زوجته الثانية ناريمان - وامتد شهر العسل ثلاثة عشر أسبوعا، وكانت بعض الصحف المصرية تنشر - بالتلميح - بعض فضائح الملك والحاشية فى هذه الرحلة، فسارعت الحكومة - بناء على الأمر الملكى - بإعداد قوانين تعطى لمجلس الوزراء الحق فى مصادرة الصحف دون الرجوع إلى القضاء. وتعليقا على هذا القانون كتب أحمد حسين فى صحيفة (الاشتراكية) تحت عنوان (إلغاء الصحف يساوى إلغاء الحكم)، يقول:(دعونا نحاربكم بالقلم وإلا حاربكم غيرنا بالقنابل.. كنا نظن ان الحكام لن ينسوا أن كل الجرائم السياسية فى مصر وقعت فى ظل صحافة مقيدة ومقهورة. فعندما قتل بطرس غالى قتل فى عهد قانون المطبوعات الذى صدر لمحاربة الصحافة، وعندما شرع بعض المصريين فى قتل السلطان حسين كان فى ظل الأحكام العرفية التى فرضها الانجليز، وعندما قتل الانجليز ومن تعاونوا معهم فى عامى 1920 و 1921 لم تكن الصحافة فى مصر حرة، وعندما شُرع فى قتل إسماعيل صدقى رئيس الوزراء فى سنة 1930 لم تكن الصحافة حرة وكان هو نفسه يحكم مصر بالحديد والنار، وعندما قتل أحمد ماهر داخل البرلمان كان ذلك فى ظل الأحكام العرفية والرقابة على الصحف، وعندما قتل النقراشى داخل وزارة الداخلية كان ذلك فى ظل الأحكام العرفية والرقابة على الصحف، وعندما وقعت عشرات الحوادث التى هزت أركان الأمن فى البلاد لم تقع فى ظل حرية الصحافة بل وقعت فى ظل الكبت والرقابة على الصحف. إن الثورات لا تحدث بما تنشره الصحف، وإنما تنشأ الجرائم السياسية والثورات نتيجة للكبت والقهر والطغيان).
وكتب فتحى رضوان - الكاتب والسياسى الوطنى - فى صحيفة اللواء الجديد تحت عنوان (مذبحة الصحافة)، يقول:(إنهم لا يستطيعون أن يصبروا على الصحافة وهى التى تذكر الأمة صباح مساء بأنهم خدعوها. وهى التى تفضح ما استتر من مخازيهم وسرقاتهم ومحسوبياتهم وتنشر حقائق هذا التدنى المفسد الفاسد الذى يتقلبون فيه.. إن قتل الصحافة هى السبيل أمام حاكم فاسد لا يريد أن يصلح حالة).
هكذا خاضت الصحافة معركة شرسة دفاعا عن حريتها، وانتقلت المعركة إلى داخل مجلس الوزراء من السر إلى العلن، فأدلى الوزير الدكتور حامد زكى بتصريح قال فيه: إن هذه التشريعات يجب أن تصدر إذ ليس فى استطاعة وزارة بيضاء أن تحكم شعبا أحمر. فبادر وزير الخارجية الدكتور محمد صلاح الدين بالادلاء بتصريح قال فيه:(إن زميلى أحرج زملاءه الوزراء أشد الاحراج مما يضطرنى - وأنا لا املك إلا الكلام عن نفسى - أن أعلن أنى عارضت كل مشروع مقيد للحرية وذهبت فى معارضته إلى أبعد الحدود التى ترسمها مسئوليتى كوزير).
واضطرت الحكومة إلى التراجع، حيث أمرت النائب الذى قدم مشروع القانون باسمه إلى مجلس النواب بسحب المشروع.
***
حكاية أخرى فى سنة 1946 كان إسماعيل صدقى رئيسا للوزراء وفوجئ بقرار الملك فاروق بتعيين صديقه كريم ثابت مستشارا صحفيا للملك ولم يكن لهذا المنصب وجود من قبل، ورأى من واجبه أن يبلغ الملك بأن كريم ثابت - وهو رئيس تحرير جريدة «المقطم» الموالية لسلطات الاحتلال البريطانى - كان يقبض مبلغا شهريا من المصروفات السرية وان كرامة منصبه الجديد تقتضى إعفاءه من الاستمرار فى قبض هذا المبلغ، وظن أن الملك حين يعلم بأن كريم ثابت كان يتقاضى راتبا شهريا من المصاريف السرية سيقرر الاستغناء عنه، ولكن الذى حدث أن الملك بعد أن علم بذلك أمر رئيس الوزراء بمضاعفة المبلغ الشهرى من المصاريف السرية التى كانت تدفعها الحكومة سرا لشراء الصحفيين القابلين للبيع! ونفذ رئيس الوزراء الأمر الملكى!
وحكاية أخطر فى سنة 1950 سجل رئيس ديوان المحاسبة (محمود محمد محمود) فى تقريره السنوى ملاحظتين، الأولى عن الذخيرة الفاسدة التى قام عملاء الملك بتوريدها إلى الجيش المصرى أثناء حرب فلسطين سنة 1948، والثانية خاصة بحصول كريم ثابت على أموال من التبرعات لمستشفى «المواساة» بالإسكندرية بدعوى أنها مقابل دعاية قام بها لحساب المستشفى، وكريم ثابت هو الذى يلازم فاروق فى سهراته ونزواته. وكانت النتيجة أن غضب فاروق على رئيس ديوان المحاسبة فاضطر إلى الاستقالة من منصبه. والتقط مصطفى مرعى عضو مجلس الشيوخ الملحوظتين وقدم استجوابا لرئيس الوزراء، وكانت النتيجة أن تعرض مصطفى مرعى - وهو عضو مجلس الشيوخ وله حصانة - إلى بطش الملك والحكومة به، ولم يكن وحده فى ذلك بل تعرض رئيس مجلس الشيوخ نفسه (الدكتور محمد حسين هيكل) إلى البطش أيضاً، وفى 17 يونيو 1950 صدرت ثلاثة مراسيم ملكية عصفت بالدستور وبالسلطة التشريعية فى البلاد.
والغريب أن وزير الداخلية حين قام ليرد على استجواب مصطفى مرعى قال: إنه لاحظ أن كرسى رياسة مجلس الشيوخ كان يهتز عندما كان مصطفى مرعى يتكلم. فقاطعه رئيس المجلس الدكتور هيكل قائلاً:إن هذا الكرسى الذى تشرفت بالجلوس عليه للسنة السادسة ثابت ثبوت الطود، فالجالس عليه يؤدى واجبه فى كل الظروف فى حدود الدستور واللائحة الداخلية والتقاليد التى حرص عليها مجلسكم الموقر. وتأجل الاستمرار فى مناقشة الاستجواب أسبوعا عاد المجلس بعده إلى استئناف المناقشة فتكلم الدكتور إبراهيم بيومى مدكور (الأستاذ بجامعة القاهرة ورئيس المجمع اللغوى فيما بعد) فطالب بتعيين لجنة تحقيق برلمانية تحقق فى الواقعتين اللتين تناولهما الاستجواب، واعترضت الحكومة على ذلك بدعوى أن هذه اللجنة (غير دستورية) وانتهى المجلس بإحالة الموضوع إلى لجنة الشئون الدستورية لفحصه.
وفى 17 يونيو صدرت مراسيم ملكية بإسقاط العضوية عن رئيس مجلس الشيوخ و19 عضوا فى مقدمتهم مصطفى مرعى بك. وفى اليوم التالى أذاع زعماء أحزاب المعارضة بيانا قالوا فيه: إن شر عهود الفساد والتحلل فى الحكم هى التى سيتوارى فيها القانون، وأن تنزل الحكومة نقمتها على الذين يشيرون إلى مواطن التعفن لتداركها، وإلى أبواب الشر لإغلاقها.. إن الهاوية التى لا درك أسفل منها هى أن يرى الناس الجناة والأدلة آخذة برقابهم، بينما ضحاياهم تستجير ولا مجير، ثم يطالب ممثلو الأمة بأن يتأدبوا بالخرس والعمى.. إن الحياة النيابية إذا فقدت حرية المنبر فقل عليها العفاء، ولقد طالب أعضاء مجلس الشيوخ بالتحقيق فى أمور خطيرة منها ما يمس نظام الجيش وأرواح رجاله فماذا يغضب الحاكم المستقيم من هذا؟.. إن الحكومة تثير الشك فى جدية إجراءاتها، وتقتلع الثقة اقتلاعا من نفس الشعب بسلامة مقاصدها.. فالذى يجرى فى الإدارة، يجرى فى السوق المالية، ويجرى فى سوق القطن، ويجرى فى القضية الوطنية، وهذه التدابير، إنما تعد الحياة النيابية لتكون على غرار خاص فتغض الطرف عن فضائح الحكم، وتخرس عن النطق باسم المرتكب أو الإشارة إليه.
ثم اكتملت القصة بأن أصدر الملك فاروق مرسوما ملكيا بمنح كريم ثابت نيشانا تكريما له.. ثم أصبح كريم ثابت فيما بعد وزيرا.
كيف لا يشعر بالخجل من قال: إن ذلك العصر ازدهرت فيه الديمقراطية؟


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف