فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 34 )
 يحكى حلمى سلام (الكاتب الكبير الراحل) عن مقابلة أجراها مع وزير الداخلية (مرتضى المراغى باشا) يوم 22 فبراير 1952، لحديث صحفى لمجلة المصور، وبعد انتهاء الحديث (الرسمى) قال له وزير الداخلية (وكان من أقرب الوزراء إلى الملك فاروق): الكلام الذى سأقوله لك ليس للنشر.. إننى قد أنجح فى أن أحكم البلد بالحديد والنار كما يريدنى هذا الرجل (يقصد الملك فاروق) ولكن إلى متى أستطيع أن استمر؟ وإلى متى يستطيع الناس الصبر على حكم الحديد والنار؟.. وفى مرة أخرى ذهب حلمى سلام إلى وزير الداخلية يرجوه الإفراج عن المفكر والسياسى الكبير فتحى رضوان الذى كان معتقلاً بدعوى التحريض على حريق 26 يناير(!)، فقال له الوزير: إنه فى المعتقل بأمر شخصى من الملك، وضحك المراغى ضحكة ذات معنى ثم أكمل قائلاً: ومن يدرى.. فقد يخرج فتحى رضوان من المعتقل بأسرع مما يتصور الملك.
هذا هو الجو العام فى البلد فى الأيام التى سبقت ثورة 23 يوليو.. جيش يشعر بالمرارة بعد أن خزله فى حرب فلسطين، وأنقاض حريق القاهرة تنذر بأيام صعبة، وغلاء يطحن المصريين، وفساد سياسى ومالى، وخراب الذمم.. واحتلال عسكرى يشعر المصريين بالمهانة، وملك يلهو، والجميع يشعرون بأن النهاية تقترب.
وبدأت حركة الضباط الأحرار تتحرك حتى أنهم أرسلوا أحد منشوراتهم إلى رئيس الوزراء (نجيب الهلالى الباشا) وقرأه رئيس الوزراء، وربما كان هذا المنشور أحد أسباب استقالته فى 28 يونيو 1952 وقد كتب فى استقالته التى قدمها إلى الملك إنه لا يستطيع الاستمرار.. وجاء فى المنشور: (إن من أهداف الضباط الأحرار الكفاح ضد الفساد بكل مظاهره.. ضد الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ.. إننا نحذر الهلالى وشركاءه ونعتبره مسئولا عن صرف أنظار الشعب عن قضيته الكبرى.. إن الشعب ازداد وعيه ويفهم جيدا ما يدبر له من مؤامرات، وإن حسابه للخونة سيكون عسيرا.. إن الوطن فى خطر، فتنهبوا للمؤامرات التى تحاك لوطنكم..
***
وكانت كتابات الكبار من قادة الرأى تعبر عن الحالة التى وصلت إليها البلاد من ضيق بحكم فاروق ورجاله، مصطفى مرعى (صاحب المواقف الشجاعة فى مواجهة فساد الملك فاروق فى استجواباته الشهيرة فى مجلس النواب) كتب مقالا فى صحيفة اللواء الجديد فى 17 أبريل 1951 بعنوان (ولاء العبيد) قال فيه: (ولاء العبيد رخيص.. عرفته الدنيا فى عصور الظلام حين كان الظن أن الملوك والأمراء آلهة وأشباه آلهة، وقد أمحى الحكم المطلق ونزل الملوك عن القداسة التى خلعها عليهم نفاق البعض، ولم تعد أقدار الملوك تقاس بمقدار تسلطهم على شعوبهم.. ولكن ترانا ممسكين بأطراف من الطقوس المذلة من ذلك أن رجالا منا إذا ما تشرفوا بمصافحة الملك انكبوا على يده وقبلوها)، وكتب مصطفى مرعى مقالا آخر فى اللواء الجديد أيضاً يوم 26 يونيو 1951 بعنوان (فخر البحار) يوجه فيه نقدا صريحا إلى فاروق –والحكومة- لأنه يستخدم اليخت فخر البحار فى رحلاته ونزهاته الخاصة بعد أن باعه إلى وزارة الحربية وأصبح وحدة من وحدات الأسطول البحرى وقال فى مقاله: (على من تقع نفقات الرحلة.. على الدولة أم على خاصة جلالة الملك، هذا سؤال يجب أن يُسأل من الناحية الدستورية.. والسهر على مال الأمة ورعايته أمر منوط بالحكومة تحت إشراف البرلمان.. وكتب مقالا فى 15 مايو 1951بعنوان (مأساة الرتب والنياشين) يوجه فيه النقد إلى الملك لأنه كافأ اثنين من المحامين العامين برتبة البكوية من الدرجة الأولى فميزتهما هذه الرتبة على سائر زملائهما، ومن المعروف أنهما كان لهما شأن فى تحقيقات قضية الجيش (الأسلحة الفاسدة) وكذلك منح الملك نياشين النيل من الدرجة الرابعة لأربعة وكلاء نيابة كان لهم شأن فى هذه التحقيقات.. وقال مصطفى مرعى: إننى أسأل وزير العدل كيف تم هذا الإنعام، لأن العدالة لا ترضى عن الريبة تمس حرماتها، ولا عن الظن يغشى مقدساتها).
***
كذلك كانت مقالات أحمد حسين النارية تعبيراً عن الرأى العام تجاه فاروق ونظام حكمه، كتب فى صحيفة الاشتراكية يوم 29 يونيو 1951 مقالا بعنوان (طلائع المد الثورى) قال فيه: (إن الثورة آتية لا ريب فيها، ففى كل نفس سخط، وفى كل نفس غضب، وفى كل نفس نار تشتعل، والمسألة لا تحتاج إلا للظرف المناسب لكى يشتعل ذلك كله فى ومضة عين.. وبعد فإنه نذير للحكام، ولولاة الأمور، وللأعيان والأغنياء.. إن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذه الحال.. وقد أعذر من أنذر.. فإذا لم تكفوا عن هذا الاستهتار.. وإذا لم تدركوا أن الحكم ليس لهوا ولعبا.. ومغنما وإنما هو جهاد وتضحية، وإذا لم يدرك (النحاس) أن قدمه قد أصبحت فى القبر وعليه أن يعمل شيئاً لأمته .. وما لم تخفوا مظاهر ثرائكم وتبذلكم وإسرافكم وفجوركم فإن هذا الذى ترونه هو طلائع المد الثورى..) وكتب فى أول يونيو 1951 تحت عنوان (عصابة الرأسماليين ترفع رأسها) ينتقد سياسة الضرائب الجديدة التى قررتها الحكومة لصالح الرأسماليين وكبار الملاك قال فيه: (إن أموال الدولة كلها لا تنفق على الشعب ولا تقضى على الفوارق ولكنها تعمل على زيادة هذه الفوارق.. قارن بين ما ينفق على الزمالك والأحياء الإفرنجية التى يسكن فيها الأغنياء وما ينفق على الأحياء الشعبية.. فإن ضم ضاحية المرج إلى جزء من القاهرة مقصود به أن تباع عزبة رئيس الوزراء بالمتر وليس بالفدان، والملايين التى أنفقت على قصر محمد على بشبرا.. والتماثيل التى تقام فى كل ميدان وتنزع أحياء بأكملها وتبدد الملايين.. اسأل كم انفق على إصلاح يخت المحروسة (يخت الملك)، وتابع الأرقام الخيالية التى يتحدثون عن أن زيدا لطشها، وبكرا سرقها، وعمرا شفطها تدرك على الفور أين تذهب أموال الشعب وما خفى كان أعظم.. اقرأ عن أخبار الحفلات والزينات والمؤتمرات تدرك أين تضيع أموال الشعب.. اسأل عن هذه التصرفات ثم اصرخ فى وجه الحكومة وفى وجه وزير المالية وقل له أيها الرجل ليس يكفى أن تجمع المال وتزعم أنك توفر العدالة الاجتماعية، إنما العدالة الاجتماعية فى كيفية انفاق المال فلتكف الحكومة عن هذه النفقات الجنونية فى التافه من الأمور إن هذه الضرائب التى تجبيها الحكومة من أفقر طبقات الشعب إنما تنفق على الأغنياء.. وعلى الحكام)..
وكتب فتحى رضوان فى اللواء الجديد فى 25 سبتمبر 1951 تحت عنوان (عهد الكلاب) عن طلب أرسله صاحبه –مع حارس- للعلاج عند طبيب مشهور قال فيه: (إن العهد الذى تتقدم فيه الكلاب والخيول الصفوف، فتسبق الفلاح والعامل، بل تسبق التلميذ وطالب الجامعة، هو العهد الذى تأكل فيه دودة القطن المحصول الرئيسى للبلاد، والذى يرتفع فيه سعر الذرة، والذى يهدد فيه الإفلاس الخزانة العامة، إن هذا العهد يجد فيه الكلب مكانه فى الديزل ولا تجد أسرة أجرة الركوب فى الدرجة الثالثة، إن الكلب يجد من يحميه أما الفلاح إن نزل به المرض عالجوه بالتعلق بالمبادئ حتى إذا قفزوا إلى الوزارة ومقاعد السلطان أسرعوا فوزعوا أنفسهم على مناصب الدولة، والشركات، ثم اندفعوا ينهبون ويسرقون سرقات مفضوحة يعاقب عليها الله بقطع اليد، ويعاقب عليها الأمم الحية بالإعدام المدنى أو المادى، كيف لا تتقدم الكلاب وجواز المرور فى هذه الأيام أن تكون خفيفا لا وزن لشخصك، مسايرا لا اعتبار لرأيك، وأن تتستر على اللصوص وتعينهم.. فالعهد إذن عهد الكلاب، والخيول والأمزجة المريضة فليعرف ذلك الكتاب والوطنيون ليدربوا أقلامهم حتى تتشابه العقول والألسنة والأقلام بما يريده الكلاب).
وكتب فتحى رضوان فى اللواء الجديد يوم 3 يوليو 1951 تحت عنوان (رحلات الملوك) عن نفقات الرحلات الخاصة فى الخارج التى يقوم بها الملك فاروق وتتحمل الدول تكاليفها وفى ذلك مخالفة دستورية تسأل عنها الحكومة.
***
وكذلك كان إحسان عبد القدوس صوتا مدويا يكشف الفساد ويصور ما وصلت إليه أحوال البلاد من تدهور ويكفى أن نراجع عناوين مقالاته مثل: (دولة الفشل-روزاليوسف 8 يوليو 1951، و(الفساد الذى تحميه القوانين-روزاليوسف 17 يوليو 1951)، و(هذه الحكومة يجب أن تستقيل - روزاليوسف 16 أغسطس 1951) هذا بخلاف حملته الشهيرة عن الأسلحة الفاسدة..
لم يكن هؤلاء وحدهم، بل كان هناك عدد كبير من الكتاب والمفكرين وبعض السياسيين يدركون حجم الخطر، ويشعرون بنذر الثورة، ويحاولون التنبيه والتحذير لتدارك الأمور قبل فوات الأوان.. ولكن ظل الفاسدون على فسادهم.. واستهانوا بالخطر.. وكذبوا إنذارات المخلصين ذوى الضمائر.. وساروا بأقدامهم إلى نهايتهم..
بلد تتدهور أحواله .. وسياسيون لا تشغلهم إلا المناصب والمغانم.. وملك يلهو.. والغليان الشعبى على وشك أن ينفجر.
( لقد اقترب 23 يوليو )
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف