أستاذى أمين الخولى

أحمل فى قلبى حبا للشيخ أمين الخولى، وهو صاحب الفضل فى فتح الطريق أمامى للكتابة وتحقيق حلمى فى أن تكون بالنسبة لى مهنة وهواية لا أرضى بها بديلا.. فى أواخر الخمسينيات من القرن الماضى كنت لا أزال طالبا فى جامعة الأسكندرية، وكنت أنام وأقوم على حلم أن أصبح كاتبا.. قرأت كثيرًا جدًا بعد أن قيل لى إن من يريد أن يكون كاتبًا عليه أن يقرأ أكثر مما يكتب.. وأسعدنى الحظ بالاقتراب من رجل كان له تأثير السحر علىَّ وعلى عدد كبير من شباب مدينتى دمنهور أصبحوا جميعًا من الأدباء والشعراء والصحفيين.. هو عبد المعطى المسيرى.. صاحب القهوة الذى اختار أن يفتح قهوته لشباب دمنهور المسكونين بالأدب والفكر.. وحكاية هذا الرجل تحتاج إلى كتاب أرجو أن يمتد بى العمر لإنجازه. فى هذه الفترة كان الطموح يدفعنى إلى السفر إلى القاهرة لمحاولة الالتقاء بأصحاب الأسماء الكبيرة فى الصحافة والأدب..محمود تيمور.. محمود البدوى.. نجيب محفوظ.. ثروت أباظة.. يوسف إدريس.. بعضهم كنت أقابله بسهولة.. وبعضهم كنت أقابله بصعوبة.. وبعضهم كنت أجد بابه مغلقا أمامى وأمام غيرى وعلى الباب حارس متجهم دائما السكرتير أو مدير المكتب أو العلاقات العامة.. وبالمصادفة عثرت على رقم تليفون الشيخ أمين الخولى، وهو فى ذلك الوقت أستاذ كبير واسم له رنين.. وله تلاميذ ومديرون.. وله أيضًا مؤلفات لا تجعله فى الصف الأول مع طه حسين والعقاد وأحمد أمين وغيرهم من جيل الرواد العظام فى الثقافة المصرية.. واتصلت به من دمنهور أسأله إن كان يسمح لى بمقابلته، ودهشت للبساطة التى تحدث بها معى ورحب بى وحدد لى موعدًا، وفعلا ذهبت إليه فى الفيلا التى كان يسكن فيها فى مصر الجديدة.. وبالنسبة لى -أنا الطالب القادم من دمنهور- كانت مفاجأة أن تفتح لى الباب الأستاذة العظيمة الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) واكتشفت أنها زوجته الثانية، وكانت تلميذته فى كلية الآداب وجمع بينهما الحب، ولم تجد غضاضة فى أن تكون الزوجة الثانية لتكون قريبة من الرجل الذى أحبته وظلت تعتبره أستاذها حتى آخر يوم من حياتها.. ولى عن بنت الشاطئ حديث آخر.
وتكررت لقاءاتى مع الشيخ أمين الخولى بعد ذلك وكانت فرصة ذهبية لأستمع إليه وهو يتحدث إلى ـ على الرغم من فارق السن والمكانة ـ وكأنى صديق له.. يهدينى بعض كتبه، ويدعونى إلى الكتابة فى المجلة التى كان يصدرها، مجلة «الأدب» وكانت هذه أيضا فرصة ذهبية بالنسبة لشاب يعيش فى مدينة دمنهور ولايزال يدرس فى الجامعة ولم يتخرج بعد.. أتذكر هذه الأيام وأقول لنفسى.. أين هؤلاء الأساتذة الذين فتحوا لنا بيوتهم وقلوبهم وأخذوا بأيدينا ولم يبخلوا علينا بوقتهم وخبرتهم وعلمهم.. وأحيانا أقول: أين هؤلاء التلاميذ الذين يسعون إلى الأساتذة ويجلسون إليهم مجلس التلميذ من الأستاذ ويتعلمون منهم.. ولا أرى أساتذة ولا تلاميذ فى هذه الأيام.. فلا يكاد الواحد يكتب بضعة سطور فى صحيفة مغمورة حتى يعتبر نفسه ندا للأساتذة جميعا وينتفخ بشعور كاذب يجعله يتطاول على القمم ولا يعرف قيمة الرجال.
الإسلام يرفض الجمود
كان الدرس الأول الذى تعلمته من الشيخ أمين الخولى هو الإيمان بحرية الفكر، والتسامح الفكرى وقبول الرأى المختلف مع آرائى باحترام.. والإيمان بحتمية التطور والتجديد فى كل شىء.. الحياة لا تتوقف أبدا.. كل يوم هو يوم جديد.. ما رأيته بالأمس ليس هو بالضبط ما تراه اليوم.. النهر ليس النهر.. فقد تدفقت فيه مياه جديدة.. هذه الشجرة ليست كما كانت بالأمس.. منها أوراق ونبتت منها أوراق جديدة، وهذا الطفل نما ويوما بعد يوم سوف يظهر هذا النمو الذى لا تلحظه اليوم.. وكذلك الفكر.. الفكر يتطور مع تطور الحياة.. سنة الحياة التطور.. فلماذا نجد من شيوخ الاسلام من يرفضون فكرة التجديد والتطور فى الدين.. مع أن الشىء الذى لايتطور يكون مصيره الجمود وربما يكون مصيره الموت.. قانون الحياة يدلنا على أن الكائنات التى لم تتطور انقرضت.. التطور أو الانقراض.. وهذه الحقيقة فى غاية الأهمية وهى أن الاسلام دين يرفض الجمود، هو دين لكل زمان وكل مكان، ومعنى ذلك أنه صالح لتنظيم حياة الذين يعتنقون الاسلام فى بلاد تختلف فى لغاتها وعاداتها وثقافاتها.. وفى الهند والصين.. صالح لمواكبة تطورات العلوم والأفكار فى القرن العشرين وما بعده كما كان صالحا فى القرن السادس.. والحديث الشريف أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد الدين.. المشكلة أن البعض يفضل الجمود، ويتمسك بما كان عليه الفكر الدينى منذ أربعة عشر قرنا وكأن المسلمين مكتوب عليهم أن يمر عليهم الزمن ولا تتغير أفكارهم وسلوكهم وأساليب حياتهم.. الشعوب الحية تساير التطور، وبعض شيوخنا يريدون منا أن نظل نردد ما قاله رجال عاشوا منذ ألف سنة وأكثر.. ويرون أن التجديد خروج على العقيدة، ومنهم من يزداد فى الشطط فيوجه تهمة الكفر إلى من يدعو إلى التجديد ويؤمن بالتطور.
هكذا كان فكر الشيخ أمين الخولى ـ رجل الأزهر المستنير ـ ولكنه كان يحذرنا من أن هناك تجديدًا صحيحًا وتجديدًا زائفًا، فليس كل من يدعى التجديد فى الفكر الدينى مخلصًا وصادقًا ومؤهلاً لهذه المهمة. هناك من يدعى التجديد وهو فى الحقيقة لأفكاره هو أو لمذهب معين يحاول أن يقدمه على أنه من الدين وهو ليس كذلك.. وهذا خداع يجب أن ينتبه المؤمن إليه.
مثال للخداع باسم الدين
والمثال على التجديد الزائف.. أو الخداع باسم الدين.. الحركة القاديانية التى ظهرت فى الهند على يد المرزا غلام أحمد الذى ادعى أنه المجدد للدين، ولكنه منح نفسه لقب «المسيح الموعود والمهدى المسعود» وقال لأتباعه الذين خدعهم فساروا وراءه بعد أن تعرضوا لعملية غسيل مخ.. وأقنعهم بصحة ما يقوله:.. بعثنى الله على رأس المائة لأجدد الدين، وأنوِّر وجه الملة، وأقيم سنة خير البرية، ولأصلح مافسد وأروج ماكسد.. وأنا المسيح الموعود.. من الله على بالوحى والإلهام وكلمنى كما كلم الرسل الكرام»! هذه الحركة القاديانية كانت فى الحقيقة من صنع الاستعمار البريطانى فى الهند لتفريق المسلمين واثارة الصراعات بينهم وانهاء الوحدة التى كانوا عليها.. وسياسة فرق تسد الاستعمارية معروفة وتستخدم كل الوسائل وأولها العقيدة الدينية.
القاديانية مثال على التجديد الفاسد والخداع باسم التجديد، ومع الأسف لا يزال لهذه الحركة اتباع فى الهند إلى اليوم على الرغم من القرارات العديدة التى أصدرتها مجامع الفقة الاسلامى فى مختلف البلاد من أن القاديانية كفر صريح وخروج عن الاسلام.. أما التجديد الصحيح فالمثال عليه ما فعله الإمام الشافعى، فقد وضع مذهبه الفقهى فى العراق، فلما جاء إلى مصر وجد أن هذا بلد مختلف وأن مذهبه لا يتفق مع البيئة الاجتماعية والاقتصادية وأحوال الناس فيه، فتراجع عن مذهبه ووضع مذهبا آخر فى الفقه يتفق مع الظروف التى انتقل إليها وجدها تحتاج إلى أحكام فقهيته تناسب ما هى عليه من التطور، دون خروج على مبادئ الشريعة وأصول الفقة، ومع الالتزام بالكتاب والسنة الصحيحة.. فالدين يسر، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا: «يسروا ولا تعسروا» وكان دائما يختار أيسر الحلول،.
التجديد الصحيح يؤمن بالعلم وحقائقه ولا يغلق باب البحث والاجتهاد فى جميع مجالات الحياة.. ولا يرفض البحث فى أصل الكون وأصل الانسان، ولذلك لم يأت فى القرآن شىء يتصادم مع أحدث القوانين التى يصل اليها العلم.. وكان أستاذى أمين الخولى يقول: نحن فى عصر الصواريخ والمعجزات العلمية فلم تعد الأفكار الساذجة عن الغيبيات تقنع أحدا، وقد ابتدعها رجال كانت عقولهم تتقبل مثل هذه الأفكار، ولكننا الآن فى عصر آخر لا يمكن أن يقال فيه مثلا إن التصوير حرام ونحن نشاهد الصور ليل نهار فى التلفزيون والصحف والكتب ونحتاج إلى الصور فى البطاقات الشخصية وجوازات السفر.. والفنون كلها غذاء للوجدان وسمو بالمشاعر.. والتجديد يلحق بالعبادات أيضا.. فالصلاة فى الطائرة لاتجد لها حكما فى كتب الفقة القديمة ولكنك تجد حكم صلاة من يركب الدابة أو السفينة.. ولا تجد النص فى القرآن مقدار الزكاة فى الزروع والتجارة والحلى وغيرها.. ولا تجد حكما على معاملات البنوك والتأمين على الحياة.. وحتى الحج اقتضت الظروف أن يكون الطواف فى الأدوار العليا وليس حول الكعبة مباشرة، واقتضت اتباع أساليب جديدة للاستفادة بلحوم الهدى والأضاحى لإطعام الفقراء خارج السعودية، وكانت هذه اللحوم تكدس وتترك للفساد ولا يستفيد منها أحد..
وهكذا كلما جد فى الحياة جديد.. لابد من تفكير فقهى يساير هذا الجديد.. فالمسلمون عقولهم مفتوحة ويجب أن تكون كذلك.. ولن يغفر الله لمن يسعى إلى إغلاق العقول، وفرض الجحود على المسلمين وإفساد الفكر الدينى بالتعصب وإدانة كل من يؤمن بالتطور والتجديد. ورحم الله أستاذى المجدد فى الدين وفى الفكر وفى الثقافية.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف