الثورة فى الضمير الوطنى
بعد53 عاما مازالت ثورة يوليو حية, ومازال جوهر رسالتها باقيا. وقد استقرت مبادئها في الضمير الوطني, واستجابت هذه المبادئ لضرورات واحتياجات التطور الطبيعي للمجتمع.
ولايستطيع منصف أن يجادل في أن الثورة غيرت مجري الحياة في مصر. فمصر بعد23 يوليو غير ما كانت عليه قبله.. والتحولات السياسية والاجتماعية العميقة التي أحدثتها استقرت في التربة المصرية وامتدت آثارها إلي العالم العربي, وافريقيا, وامريكا اللاتينية, ودخلت التاريخ كثورة من ثورات التحرر الوطني الكبري.
وانجازات الثورة كثيرة ولاينكرها إلا من في قلبه مرض, ومازالت مبادئها الأساسية تهدي إلي طريق الحرية والتقدم. ومن هذه المبادئ الأساسية الباقية والمستمرة والتي لايمكن التنازل عنها: العدالة الاجتماعية, واستقلال الإرادة الوطنية, ورفض الوجود الأجنبي علي الأرض المصرية,ورفض سيطرة رأس المال علي الحكم, وتحمل أعباء ومسئوليات الدور المصري في المنطقة وهو دور لاتسعي إليه مصر اختيارا ولكنه مطلوب منها بحكم وضعها كقوة اقليمية تأكدت أهميتها منذ ثورة يوليو.
ولأن التطور هو قانون الحياة, فقد مر المجتمع المصري بمراحل تجاوب فيها مع التغيرات الكبري التي مر بها العالم في السنوات الأخيرة من انتهاء الحرب الباردة, وهبوب رياح العولمة وتداعياتها علي المنطقة, وصعود تيارات سياسية واقتصادية جديدة, ونتيجة لذلك تحول المجتمع المصري إلي مرحلة الشرعية الدستورية ودولة القانون, والتعددية الحزبية والفكرية, واقتصاد السوق, والواقعية السياسية, وصاحب ذلك ـ ونتج عنه ـ تغير في طبيعة الصفوة أو النخبة المؤثرة في صناعة السياسات.
وباختصار تغير المجتمع كثيرا في جميع المجالات, ومازال في مرحلة التغير, دون أن يتخلي عن جوهر الثورة ومبادئها وثوابتها الأساسية. وهذا دليل علي أن هذه الثورة تحولت إلي طاقة تمد المجتمع بالحيوية ولاتمثل قيدا أو اطارا حديديا يعوق التقدم والانطلاق.
وكالعادة في ذكري الثورة كل عام نكرر الدعوة إلي كتابة تاريخ الثورة بمنهج موضوعي, لكي تستقر الحقيقة التاريخية في مواجهة طوفان الكتابات التي تفتقد الصدق والإنصاف. ولازلنا نكرر أيضا الأمل في نشر نتائج أعمال لجنة تاريخ الثورة التي شكلت منذ ثلاثين عاما تقريبا, وجمعت وثائق هذه المرحلة, ومحاضر اجتماعات مجلس الثورة, وشهادات قادتها. ولاشك أن تقديم التاريخ الموضوعي للثورة يمثل ضرورة سيكولوجية وسياسية للشباب بصفة خاصة لأن الأجيال الجديدة نشأت وليس أمامها سوي كتابات من بقايا أعداء الثورة القدامي يحاولون بها تشويه كل انجازاتها ورموزها,
أو كتابات المنافقين الذين يحسبون أن الاساءة إلي المراحل السابقة فيه زلفي للمرحلة الحالية. أو كتابات بعض المشاركين في الثورة يحاولون بها اظهار أنفسهم في دور البطولة الرافضين لغياب الديمقراطية وللأخطاء التي وقعت فيها بينما كانوا هم الضالعين في كل ذلك وربما كانوا المحرضين عليه. وأغرب من ذلك كتابات من كانوا علي هامش الأحداث ونشروا مذكرات صوروا أنفسهم فيها أصحاب الثورة واختطفها منهم الآخرون.. كل هذه الكتابات لها تأثيرها علي الشباب الذي لم يشاهد ولم يعايش ولم يتابع الأحداث يوما بيوم, ولم يتعرف علي الظروف والضغوط التي كانت تحيط بالثورة في كل مرحلة.
ولأن ثورة يوليو هي الأب الشرعي لمصر الحديثة, فإن اعادة الاعتبار إليها ضرورية لكي تستعيد الأجيال الجديدة التوازن والثقة, بعد أن أساءت الحملات الظالمة إلي الثورة اساءة بالغة وجعلت الشباب يشعر بالشك في كل شيء.. في الماضي والحاضر والمستقبل.. ومعاداة الماضي تنعكس علي المستقبل.. ومن لا ماضي له لا مستقبل له. وأتذكر دائما رواية( الطريق) لكاتبنا الكبير نجيب محفوظ التي صور فيها مأساة الانسان حين يبحث له عن أب فلا يجده, ويعيش حياته في قلق وتوتر وفقدان الدافع, لأن الأب يعني الجذور, والامتداد, والاستمرار, والانتماء, وهو دائما مصدر فخر ويعطي للانسان الشعور بالكرامة.
ولقد كان موقف الرئيس مبارك الدائم موقفا منصفا وموضوعيا لثورة يوليو, وظل حريصا في قيادته للتحولات والاصلاحات الكبري علي المحافظة علي مبادئها وجوهرها, والاستفادة من دروس معاركها وانتصاراتها وانكساراتها, وبذلك حافظ علي المسار التاريخي للمجتمع دون انقطاع أو قفزات في الفراغ.