فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 33 )
هكذا كانت بداية النهاية..
للأستاذ أحمد بهاء الدين كتاب عن الملك فاروق بعنوان «فاروق ملكا» تناول فيه الجانب السياسى من حياة فاروق بموضوعية وبناء على معلومات ووقائع، قال فيه إن مصر منذ عرفت الدستور لم تشهد استقراراً سياسيا وبخاصة فى عهد فاروق الذى لم يترك برلمانا واحدا يتم مدته الدستورية، وظل سنوات حكمه يعتدى على الدستور حتى اختفت مسئولية الوزراء والوزارات، وأصبح الملك يملك ويحكم فى كل كبيرة وصغيرة، ومارس الاستبداد ونهب الثروات وحماية المجرمين من خلصائه، وكان السخط الشعبى على هذه التصرفات يتزايد مع ارتفاع موجة الشعور الوطنى، وبعد إلغاء معاهدة 1936 مع بريطانيا فى أكتوبر 1951 أصبحت الصحافة فى مصر تحارب الاحتلال البريطانى والقصر معاً. وكان فاروق يؤمن بأن القوات البريطانية فى مدن القناة هى حرسه الحقيقى، وقد وصل فى النهاية إلى يقين بأنه حين تأتى اللحظة التى كان يتحسب لها ويحسب حسابها فلن يجد أحدا حوله سوى الجيش الإنجليزى!
وبعد حريق القاهرة فى 26 يناير 1952 وإقالة حكومة النحاس كلف فاروق على ماهر برئاسة الوزارة وطلب منه أن يحل البرلمان ويعطل الدستور، لكن على ماهر رفض ذلك فأخرجه فاروق من الوزارة بمؤامرة، ولم يدرك أنه أصبح فى موقف خطير، ظهر فيه التناقض بين الشعب والملك، وتزايد الإحساس الشعبى بأنه من المستحيل أن يبقى الاثنان جنبا إلى جنب، كان لمعركة القنال تداعيات خطيرة، وهى المعركة التى حاصرت فيها قوات الاحتلال الإنجليزى مجموعة من جنود البوليس المصرى واشتبكت معها بالنيران فى معركة غير متكافئة، صمد فيها الجنود المصريون وأظهروا بطولة نادرة وسقط منهم الشهداء وهم يهتفون لمصر وللاستقلال. وقد زلزلت هذه المعركة عرش فاروق لسقوط خمسين شهيدا وثمانين جريحا من جنود الشرطة وتحركت الأحداث بالفعل ورد الفعل مثل لعبة الدمونيو، معركة الشرف ضد الاحتلال فى الإسماعيلية.. ثم حريق القاهرة فى اليوم التالى، ثم الإطاحة بحكومة الأغلبية المنتخبة فى نفس الليلة، وفرض الأحكام العرفية، ثم ما بدا من الملك.. فى هذه الأيام العصبية من استهتار بالحكم إلى حد تشكيل أربع وزارات فى ستة أشهر.
فقد كلف حسين سرى بتشكيل الحكومة ولم يستمر سوى أسبوعين، ثم كلف نجيب الهلالى مرتين بينهما أسبوعان، وهكذا كانت بداية النهاية.
***
يذكر مرتضى المراغى آخر وزير داخلية فى عصر فاروق فى مذكراته التى نشرتها دار المعارف أنه كوزير داخلية كانت لديه تقارير من أجهزة الأمن يوم 22 يوليو 1952 تشير إلى احتمالات الثورة وبدء تحركات بعض شباب الضباط ممن لهم صلة بأزمة نادى الضباط، ويقول المراغى إنه اتصل برئيس الوزراء –نجيب الهلالى- وكرر الاتصال به أكثر من مرة ليبلغه بأن الثورة وشيكة، لكن رئيس الوزراء نهره وقال له إنه سينام وطلب منه عدم إيقاظه.. حتى رئيس الوزراء كان قد وصل إلى درجة لم يعد يهمه فيها مستقبل الملك.
وقد شكا وزير الداخلية إلى رئيس الوزراء أنه لا يستطيع الاتصال بالملك أو بوزير الحربية «إسماعيل شيرين زوج أخت فاروق» لإبلاغهما بما لديه من معلومات عن هذه التحركات، لأن وزير الحربية كان فى رحلة صيد سمك على ظهر اليخت الخاص به، والملك يعوم فى البحر، ولم يستطع العثور على حيدر باشا فى أى مكان، وأنه اتصل برئيس الأركان «اللواء حسين فريد» وأبلغه عن تحرك بعض الضباط فقال له رئيس الأركان إن كل شىء هادئ فى علمه وربما يكون هؤلاء الضباط قد التقوا للذهاب لمشاهدة مباراة كرة القدم، وحين قال له وزير الداخلية: وهل يذهبون إلى المباراة بأسلحة؟ قال له رئيس الأركان: على كل حال، الذى أعرفه أن كل شىء هادئ، حين عرض وزير الداخلية كل ذلك على رئيس الوزراء كان رده: يعرف شغله، واحنا نقلق نفسنا علشان إيه.. أنا قرفان.. واللى يحصل يحصل!!
وفى الليل اتصل الأمين الخاص للملك بوزير الداخلية يسأله لماذا يريد محادثة أو مقابلة الملك ذكر له ما يجرى من تحركات، فذهب الأمين الخاص وعاد ليقول لوزير الداخلية: اتصل بوزير الحربية أو بالفريق حيدر.
يقول مرتضى المراغى: وقد علمت بعد ذلك أن السيدة نهى وصيفة القصر قد لازمت الملك منذ الصباح، وأنها تناولت معه طعام الغداء، وكانت تعوم معه فى البحر، وأنها علمت من الأمين الخاص باتصال وزير الداخلية ومحاولته مقابلة الملك فقالت لفاروق: إن وزير الداخلية لن يتركك فى راحة أبدا، ويريد أن يجعلك تصطدم بالجيش بأية وسيلة، لا تهتم بهم فالجيش موال لك..!.
وفى الليل اتصل وزير الحربية بوزير الداخلية فأخبره عن المعلومات التى لديه عن تجمعات للضباط، فرد عليه ضاحكا: سأتصل الآن بحيدر، ثم عاود الاتصال بعد فترة وقال لوزير الداخلية: إن حيدر يقول إن بوليس مصر يخالطون الحشاشين كثيراً، ولهذا يتخيلون مثلهم خيالات عن انقلابات.
***
يقول مرتضى المراغى: أذهلنى أنه فى العاشرة والنصف مساء 22 يوليو 1952 اتصل بى مأمور ميناء الإسكندرية وقال لى إن اليخت الملكى المحروسة صدر إليه أمر بالتأهب للإبحار فى فجر الغد، وأن البحارة والضباط الذين فى إجازة يجرى البحث عنهم للعودة إلى اليخت قبل منتصف الليل.
فاروق يريد أن يهرب !
***
كشفت الوثائق البريطانية عن أن الحكومة البريطانية كانت تتابع الأحداث وكان لها تقدير موقف دقيق عن قرب زوال حكم فاروق، وبخاصة بعد أن أمر بتشكيل الحرس الحديدى وكانت سابقة لا مثيل لها أن يتولى ملك البلاد إنشاء تنظيم سرى للاغتيالات وتصفية السياسيين من أمثال أمين عثمان وحسن البنا ورفيق الطرزى وعبد القادر طه ومحاولة اغتيال النحاس مرتين، وسجلت التقارير التى يبعث بها الدبلوماسيون من القاهرة القول: (إنه لا تمكن الثقة فى ملك يغتال زعماء شعبه).
يقول الدكتور حسن حسنى باشا السكرتير الخاص للملك فاروق: فى مذكراته التى نشرتها دار الشروق: (كنت من أشد الناس سخطا على مسلكه الشخصى، وما انزلق إليه من معايب تتعارض مع المبادئ التى كان يتمسك بها فى بداية حياته، ولعله قد أحس بالندم على ما فرط أو تهاون..) ويقول حسن يوسف باشا رئيس الديوان الملكى فى مذكراته التى نشرها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام: (كانت فئة من الحاشية غير المسئولة تضع العراقيل مما أدى إلى التسيب وعدم الاكتراث والنتائج الفادحة التى وصل إليها).
***
ويذكر المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى حقائق عن الحالة الاقتصادية فى مصر فى حكم فاروق ما يكذب ما يقوله البعض من أن البلاد كانت تعيش فى رخاء، فقد كان العجز فى الميزان التجارى يزداد عاما بعد عام مما يدل على أن البلاد كانت تستورد أكثر مما تصدر وأن ديونها الخارجية كانت تثقل كاهلها وتهدد اقتصادها، وكان العجز فى الميزانية يزداد أيضاً عاماً بعد عام، وكانت الغالبية العظمى من الشعب تشكو الفقر والغلاء وانخفاض مستوى المعيشة وعدم توفير ما تحتاج إليه البلاد وكذلك عدم وجود آفاق جديدة لزيادة الإنتاج القومى ووقف جنون الأسعار وتحسين طرق المواصلات وتنمية الصناعات وتحسين أحوال القرية والفلاحين، ولذلك انتشر السخط والتذمر فى صفوف الشعب وازداد التطلع إلى تغيير شامل فى نظام الحكم قد يساعد على إصلاح ما فسد من شئون البلاد الاقتصادية والمالية والاجتماعية، كما كانت الحالة الاجتماعية تدعو أيضاً إلى الثورة بسبب فقدان العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب، وحرمان الطبقات الفقيرة من الرعاية وأدى سوء توزيع الثروة إلى أن أصبحت الفوارق بين الطبقات كبيرة ومثيرة للسخط الشعبى، كما كان سوء توزيع ملكية الأراضى الزراعية قد وصل إلى استبداد الاقطاع وكبار الملاك، كانت مساحة الأراضى المزروعة فى مصر خمسة ملايين و 963 فدانا وبينما توجد طبقة يملك الواحد فيها آلاف الأفدنة كانت هناك القاعدة العريضة من الملاك الذين يملكون ما بين ربع فدان وفدانين، والملايين من الفلاحين المعدمين الذين لا يملكون شيئاً ويعملون فى الأرض أجراء فى تفاتيش كبار الملاك بأجور لا تكفى لتوفير القوت الضرورى!.
***
والذين يتحدثون عن الديمقراطية والليبرالية فى عصر فاروق عليهم أن يقرأوا عما كان يحدث من مصادرة الصحف وحبس الصحفيين وحل البرلمان وفصل رئيس وأعضاء مجلس الشيوخ وإقالة حكومات الأغلبية وتعيين حكومات ليست لها شعبية ومعزولة عن الجماهير لمجرد ولائها للملك. وعليهم أن يتذكروا يوم أن جاء فى كلمة رئيس مجلس النواب «عبد السلام فهمى جمعة باشا»، أمام فاروق إشارة إلى (إرادة الشعب وحاجات الشعب) وضاق فاروق بهذه الإشارة وصاح فيه قائلاً: (اسمع يا باشا، إرادة الشعب من إرادتى أنا) وكشف بذلك مدى استهانته بالشعب وبالديمقراطية وبالدستور.
يذكر الرافعى أن فاروق سرق سيف الامبراطور بهلوى امبراطور إيران السابق ونياشينه إثر وفاته فى جنوب أفريقيا ونقل جثمانه إلى مصر ودفنه فيها وكانت النياشين والسيف قد وضعت فى تابوته وعندما أرادت حكومة إيران نقل الجثمان إلى إيران اكتشف سفيرها فى القاهرة أن سيف الامبراطور ونياشينه قد اختفت من التابوت(!) ويذكر أيضا أن فاروق أعجبه خنجر مرصع بالأحجار الكريمة كان يحمله سيف الإسلام عبد الله نجل إمام اليمن الراحل فى زيارته لمصر فدعاه إلى مأدبة ملكية وطلب إليه أن يخلع حزامه وخنجره قبل دخوله قاعة الطعام فلما انتهى الغداء لم يجد الأمير الخنجر، وبعد ذلك عثر على هذا الخنجر فى قصر عابدين بعد خلع فاروق عن العرش .
هذا هو الملك الذى كان يحكم مصر