فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 32 )
فى السنوات الأولى لحكمه كان فاروق فعلا (الملك المحبوب)، ثم أصبح (الملك المؤمن). وفى أعقاب حادث القصاصين قام حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين بحشد الإخوان للقيام بمظاهرات تعبر عن الفرحة بنجاة (الملك المؤمن)، وذهب حسن البنا بنفسه على رأس وفد إلى قصر عابدين للتعبير عن الفرحة بالسلامة، وأمر شعبة الإخوان فى كل بلد فى أنحاء البلاد بتنظيم مظاهرات تتقدمها فرق الجوالة تعبيرا عن إخلاص الإخوان لجلالة (الملك المؤمن).
كانت فرق النفاق تكرر الحديث ليل نهار عن (الملك المحبوب) الذى يواسى المنكوبين ويزور الفقراء ويكرر أعمال السلف الصالح. وبعد ذلك قامت جماعة مصر الفتاة بنفس الدور وقامت فرق القمصان الخضراء الثابتة لهذه الجماعة باستعراضات تطوف شوارع القاهرة وتهتف (للملك الصالح)، وفى هذه المرحلة أضفى أحمد حسين زعيم مصر الفتاة القدسية على الملك.
وتذكر الدكتورة لطيفة محمد سالم أستاذ التاريخ الحديث أن أحمد حسين كان يعلن أن الملك فاروق (خليفة الله على الأرض)، وأن الله اختاره لصلاحه وعدله، وأنه ملك يحكم باسم الله، ويتصرف وفق إرادة الله. وذهب أحمد حسين إلى الحديث عن الملك الصالح الذى يؤدى فريضة الجمعة فى مساجد صغيرة فى أزقة ضيقة لا تصلها السيارة الملكية إلا بجهد كبير. وبينما كان الناس قبل ذلك لا يرون وجه مأمور القسم فإذا بهم يرون الملك يسعى إليهم وذلك اقتداء بالأوائل الصالحين. وتقول الدكتورة إن مصر الفتاة أصبحت فى هذه الفترة من (المواد الأولية) التى دخلت فى (صناعة الملك الإسلامية)، فقد ركزت على التعانق بين الإسلام والملكية، وعلى أن الولاء للعرض وللإسلام ضروريان للحياة الصالحة فى مصر، وأن (مشروع الامبراطورية المصرية) قائم على أن يصبح الملك على رأس (الخلافة). وهكذا دعا أحمد حسين إلى إنشاء حزب الخلافة بزعامة الملك، وبعد ذلك- فى عام 1944- بدأ أحمد حسين يكرر المقارنة بين فاروق وأشهر فراعنة مصر، ويفيض فى الحديث عن أيادى الملك البيضاء للعناية بالفئات العاملة والطبقات الفقيرة، وعلى رعاية الشباب. وإن كان أحمد حسين قد انقلب بعد ذلك 180 درجة.
كذلك قام شيخ الأزهر- الشيخ مصطفى المراغى- هو الآخر بالدعوة إلى أن تكون لمصر الزعامة على العالم، وهكذا فإن فاروق- بفضل هؤلاء- امتلك فى ذلك الوقت السلطتين الدنيوية والدينية، وظهرت فى مصر لأول مرة نظرية التفويض الإلهى، وتمادى فاروق فى الدور فكان يأمر حراسه بأن يؤدوا الصلاة معه معلنا أن الله هو الحارس، وحرص على أن يعلن عن تبرعاته لبناء وتجديد المساجد، وحرص على أن يمنح أئمة المساجد التى يزورها (الشال الكشمير) ويرفض أن تفرش له سجادة خاصة ليصلى عليها. كما حرص على أن يشارك فى الاحتفالات الدينية، وعلى استقبال فرق الطرق الصوفية فى مناسبة مولد النبى صلى الله عليه وسلم، ويستمع إلى المديح والسيرة النبوية الشريفة بساحة المولد بالعباسية، كما كان يشارك فى احتفالات ليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وليلة القدر، ورأس السنة الهجرية، والعيدين.. بل إنه كان يتخفى عند ذهابه إلى بعض المساجد كما حدث فى احتفال أقيم فى مسجد أبى العلاء ببولاق وكان يصحبه أحمد حسنين، وسرعان ما عرفه الناس والتفوا حوله وشاع الخبر وكان هذا هو المقصود. وفى رمضان كان يمد الموائد الملكية ويُدعى إليها ممثلو طوائف الشعب للإفطار معه، ويحضر فى المساء الدروس الدينية التى يلقيها الشيخ المراغى. وكان فاروق فى هذه الفترة يحرص فى أحاديثه الإذاعية على أن تتضمن كلماته عن التقوى والفضيلة، وتظهر صوره دائما والمصحف فى جيبه وعلى المائدة أمامه، وأمر بأن يضع المستشارون أيديهم على المصحف عند تأدية اليمين أمامه، ويظهر فى الصور والمسبحة بين أصابعه وأطلق ذقنه لتكون مناسبة للدور. وأخيراً تبرعات فاروق المالية والعينية للمساجد والجمعيات الخيرية والفقراء ومصابى الحوادث أدت دورا مهما فى تكملة البانوراما التى رسمها ثنائى على ماهر والشيخ المراغى، وظلت تتردد الدعوات له فى كل مكان بأن يحفظه الله ويرعاه ويجعله ذخرا لمصر وللإسلام.
هكذا استخدم فاروق الدين فى هذه المرحلة وسيلة ليكتسب شعبية تنافس شعبية الوفد، وكان الشيخ المراغى- فى هذه المرحلة- يتحدث كثيرا عن غيرة الملك على الإسلام، وأن اسمه (فاروق) على اسم عمر بن الخطاب وأنه مثل عمر فى صفاته: العدل، والسماحة، والديمقراطية. وكانت من مهام الشيخ المراغى تحريك طلبة الأزهر لتأييد الملك ضد معارضيه وبالذات الوفد.
وقامت الصحافة بدورها طبعا ضمن هذه الجوقة فكانت تنشر أخبارا عن مثول زعيم مسلمى الصين بين يدى الفاروق، وعن عطف جلالته على أبناء المسلمين فى بقاع الأرض. وتذكر الدكتورة لطيفة على سالم محاولات فاروق لإحياء (الخلافة الإسلامية على يد أمير المؤمنين فاروق الأول)! ووكل الأمر للشيخ المراغى فأعلن نداء بضرورة أن يكون (الملك المؤمن) خليفة المسلمين، ونشرت مجلة المصور سلسلة مقالات وتحقيقات عن نجاح مصر فى كفاحها السياسى بتوقيع معاهدة 1936 وأصبح واجبا عليها أن تحقق زعامتها لدول الشرق الإسلامى، وأفاضت المصور فى الحديث عن تاريخ الخلافة وآراء رجال الدين المؤيدين، وأطلقت على فاروق لقب (صاحب الجلالة فاروق الأول خليفة المسلمين) ونشرت كثيرا عن ولاء المسلمين فى الخارج لجلالته، وعن قيام (جمعية الخلافة) التى يرأسها السيد أبو العزايم بدعوة جمعيات الخلافة فى الهند وجاوه وغيرهما من البلاد الإسلامية إلى حضور مؤتمر فى القاهرة يوم 2 أكتوبر 1937 للنظر فى مسألة الخلافة، وتذكر المصور أن ردود التأييد تتوالى، وأن (البيعة) لا تأتى عن طريق الحكومات وإنما الأمر متروك لاختيار الشعوب الإسلامية.
ولأن الوفد كان دائما يرفض الخلط بين الدين والسياسة، ويقاوم محاولات الجمع بين السلطة المدنية والسلطة الدينية، فقد وقف النحاس- وهو رئيس الوزراء - بكل قواه ضد هذه المحاولات وظل يعلن بأن زمن الخلافة ولّى وانتهى، وسرعان ما أقال فاروق وزارة النحاس، وواصلت الوزارة الجديدة إضفاء المظاهر الإسلامية على فاروق، وحتى عندما تزوجت الأميرة فوزية شقيقة فاروق وهى سنية من شاه بور محمد رضا بهلوى ولى عهد إيران وهو شيعى خرجت جوقة المتشددين فى الإعلام تردد أن هذه الزيجة تعيد توحيد الأمة الإسلامية من السُنّة والشيعة تحت راية الخلافة وتنصيب فاروق خليفة للمسلمين جميعا. وكانت الهتافات فى حضور فاروق فى صلاة الجمعة فى الأزهر (ليحيا الملك الصالح زعيم المؤمنين وخليفة المسلمين).. وفى تقرير لسفير بريطانيا فى مصر السير مايلز لامبسون أن ما يحدث مجرد صيحات تضفى على فاروق لقب الخلافة قولا وليس عملا، وأن فاروق يلعب مع شيخ الأزهر لعبته مستخدما الإسلام ليحارب الوفد. وكتبت الخارجية البريطانية إلى سفيرها فى مصر بأن يحذر الحكومة المصرية من عواقب ذلك. ودخلت مجلة آخر ساعة لتفيض فى نشر مقالات عن ضرورة قيام الخلافة الإسلامية وتكرر أن إيران وأفغانستان والعراق وسوريا تؤيد فاروق خليفة للمسلمين ويؤيده أيضا أمراء الهند. وكتب رئيس تحرير المصور وقتها- فكرى أباظة- عن مصر زعيمة الأمم الشرقية وقبلة المسلمين، وأن الشعوب الإسلامية تتابع تحركات الملك وتصفق عندما تظهر صورته (على شاشة السينما فى شريط الأنباء قبل الفيلم) وهو يصلى أو يستعرض الجيش. ويكتب السفير البريطانى إلى الخارجية البريطانية بأن هذه السياسة ستؤدى إلى إثارة التعصب الدينى فى مصر.
وتذكر الدكتورة لطيفة محمد سالم أن فاروق أدى صلاة الجماعة إماما بالأمراء العرب بمسجد قيسون يوم 20 يناير 1939، وبعد الصلاة ارتقت الهتافات تكبر ثلاث مرات وتردد (يحيا إمام المسلمين.. يحيا الملك الصالح) وترددت نفس الهتافات خارج المسجد أيضا، وهللت لذلك الصحافة، وذكرت أن أرواح الخلفاء الراشدين ترفرف حول الملك، وقالت (الأهرام) إن حلم الإسلام قد تحقق بعد الأحقاب الطويلة! وفى يوليو 1940 طالب الشيخ المراغى فى خطبته أمام الملك إعلان القاهرة مدينة مقدسة. وبعد حادث 4 فبراير ازداد فاروق حرصا على لعب دور الملك المؤمن،وفتح أبواب قصر عابدين فى شهر رمضان ليدخله المواطنون للاستماع إلى تلاوة القرآن، ويكثر من لقاء الطلبة المسلمين الموفدين للدراسة فى الأزهر من مختلف الجنسيات وتفرد الصحف مساحات واسعة لنشر أنباء وصور هذه اللقاءات.
وهكذا كان استغلال الدين فى السياسة. وكم من الجرائم ترتكب باسم الإسلام وبشعاراته حتى أن فاروق وصل إلى حد أن أمر بإعلان انتسابه إلى نسل الرسول صلى الله عليه وسلم وفعلا أصدر نقيب الأشراف- السيد محمد الببلاوى- بيانا بأن جده الأكبر لأمه- الملكة نازلى- من نسل الرسول.
الغريب أن فاروق تحول بعد ذلك إلى اتجاه آخر ليكون (زعيم الأمة العربية) وتردد الصحافة الأحاديث عن الملك الشاب الذى بعثه الله ليجدد مجد العرب. وهذه قصة أخرى، ولكنه خلع القناع وظهر على حقيقته على موائد القمار وفى صحبته الغانيات وفى نهب ثروة البلاد هو وحاشيته.