فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 31 )
كان فاروق يحيط نفسه بمجموعة من المنافقين والمغامرين والقوادين ويرتاح إليهم، وكانوا حريصين على أن يوفروا له الجو الملكى الملىء بالسهرات الصاخبة وموائد القمار، ويحرصون على إخفاء الأخبار والحقائق التى يمكن أن تعكر مزاجه، ولذلك كان يكره النحاس باشا كراهية شخصية، أولا لأن النحاس كان يقول له: أنت زى ابنى. وكان النحاس محقا، لأن فاروق صار ملكا وهو لايزال فى مرحلة المراهقة، وكان النحاس وقتها قد أصبح زعيم الأمة، وكذلك كان النحاس يصدع رأس فاروق بدروس عن احترام الدستور والالتزام به، وكان فاروق يرى أن ما يريده هو الدستور، وقد ورث عن أبيه هذا الضيق بالدستور وبحديث النحاس - وقبله كان سعد زغلول - لا حديث له إلا عن الدستور وعن الوضع الدستورى للملك يملك ولا يحكم، بالإضافة إلى ذلك كان فاروق يشعر بأن النحاس له شعبية كبيرة وأنه ينافسه فى ذلك.
وكان فاروق يريد أن يكون هو المليك المحبوب الذى يهتف الشعب له وحده ولا يهتف لأحد سواه. وأخيراً دخل فى روع فاروق أن النحاس يسعى إلى استغلال شعبيته ليس فقط للفوز بالانتخابات والوصول إلى الحكم، ولكنه يسعى إلى ما هو أكثر من ذلك.. أن يزيح الملك ويصبح أول رئيس للجمهورية فى مصر ومن الممكن أن يساعده الانجليز على ذلك. وبصرف النظر عن كون هذه الأسباب كانت حقيقية أو كانت مجرد أوهام ومخاوف أو أطماع ملك أوصله فيها المنافقون إلى الاعتقاد بأن من حقه الانفراد بالسلطة، ويكون وحده على القمة وكل من هم تحته أقزام أو يجب أن يكونوا كذلك، وليس لهم إلا السمع والطاعة.
هكذا عاش فاروق بعد عام 1944 فى عالم من صنع المنافقين وانفصل عن الواقع، فلم يشعر بما يعانى منه الشعب، ولم يعد يعنيه ما صارت إليه أحوال المصريين من فقر وجهل ومرض!
يقول كريم ثابت فى مذكراته إن كبار رجال القصر لم يكن لهم جهد إلا فى اتجاه واحد هو ألا تغيب الابتسامة الملكية التى كان كل واحد منهم يحاول أن يظفر بها، وفى سبيل الفوز بالرضا السامى كان كبار رجال القصر يمتنعون عن مكاشفة الملك بأى موضوع يعلمون أن حديثهم عنه ربما لا يطابق رغبته أو أن الإفصاح عن حقيقته قد لا يرضيه أو لا يصادف ارتياحه ولو كانت نسبة هذا الاحتمال واحدا فى المائة.. ويستشهد كريم ثابت على ذلك بالمحفوظات فى قصر عابدين، وكل التقارير التى رفعت إلى فاروق محفوظة فيه، ولن يجد أحد بينها تقريرا واحدا لأحد من كبار رجال القصر يصارح فيه الملك بحقيقة ما يجرى أو يبدى فيه رأيه فى أحوال البلاد فى أى فترة من الفترات. وقد شكا كبار رجال القصر من أن فاروق لم يكن يقابلهم أو كان يقابلهم فى مرات نادرة وعلى الرغم من أن لجميع كبار رجال القصر الحق فى الكتابة إلى الملك مباشرة، فلم يستعمل أحد منهم هذا الحق لمصارحة فاروق أو تبصيره.. إذ لم يكن لهم هم إلا الحصول لنفسهم على الامتيازات والمغانم وعلى الرتب والأوسمة وألقاب البكوية والباشوية. ولحرصهم على أن يكونوا موضع القبول دائماً ولا يقول لهم الملك «لا» ولو مرة واحدة، كانوا لا يقترحون عليه اقتراحا من عندهم إلا إذا تأكدوا مائة فى المائة أن رده سيكون بالموافقة والارتياح.. ولكنهم كانوا إذا جلسوا فى المجالس والمجتمعات يصورون أنفسهم على أنهم أقرب الناس إلى الملك وأنه يقابلهم ويقول لهم كذا ويقولون له كيت.
الغريب أن كبار رجال القصر لم يكن الواحد منهم يحتفل بخطبة أو زواج ابنه أو ابنته إلا بعد (الاستئذان) من جلالته إظهاراً للاخلاص إلى درجة عدم القيام بأى شىء ولو فى الشئون الخاصة والخصوصية والعائلية إلا بالإذن السامى والتوجيه الكريم. ويذكر كريم ثابت أن أحد كبار رجال القصر استأذن فاروق فى عقد قران ابنة شقيقته على شاب معروف، فصدر الأمر الملكى بالموافقة على عقد القران بشرط ألا يحضر أحد من رجال القصر هذا الحفل، فنزلوا جميعا على (الرغبة السامية) ولم يذهب أحد منهم.
***
يصف كريم ثابت شخصية فاروق - بعد مصاحبته ليل نهار لسنوات طويلة - فيقول إنه كان بطبيعته سريع الملل وسريع التقلب، يندر أن يستقر على رأى واحد أو ميزان واحد فى تقدير الأمور ووزنها، وكان ذلك بسبب كثرة تحولاته النفسية، ولم تكن طريقته فى معاملة خليلاته تختلف عن طريقته فى معاملة وزرائه (!).
وفى مرحلة تصور فاروق أنه يمكن يكون (خليفة المسلمين) وأعد نفسه للقيام بهذا الدور فأطلق لحيته وحرص على الظهور فى جميع المناسبات وهو يمسك بيده مسبحة. كما حرص على أداء الصلوات فى المساجد الكبرى وإذاعتها فى الإذاعة ونشر صوره باللحية، وإطلاق اسم الملك المؤمن عليه، ولما لم تنفع هذه الخطة وتبين أن الخلافة انتهى عصرها، ولم تفلح الفتاوى التى أصدرها شيوخ البلاط بأن الخلافة أصل من أصول الإسلام بعد أن أصدر الشيخ على عبد الرازق كتابه (الإسلام وأصول الحكم) وبين فيه أن الخلافة كانت نظام الحكم الملائم لمرحلة من مراحل تطور الدولة الإسلامية، وأنها ليست أصلا من أصول الحكم فى الإسلام، والطبيعى أن تساير الدولة الإسلامية التطور فى نظم الحكم بها ما دامت النظم الحديثة لا تتعارض مع عقيدة الإسلام.
***
وفى سنة 1950 عين الشيخ عبد المجيد سليم شيخا للأزهر، وتقدمت الوزارة بمشروع قانون إلى البرلمان بتعديل سن المعاش للأزهريين ليصبح 60 عاما بدلا من 70 عاما. كما كان مستقرا لسنوات. كما قامت الوزارة بقطع (بدل الخبز) الذى كان الأزهريون يتقاضونه فوق مرتباتهم، وازدادت شكوى الأزهريين من قلة الدرجات وتأخر ترقياتهم وقلة مرتباتهم عن أقرانهم فى الوزارات.. ولجأ الشيخ عبد المجيد سليم إلى مقابلة الملك وعرض عليه مطالب رجال الأزهر، وصرح للصحف بعد المقابلة بأن الملك شمله بعطفه وأنه أودع الأزهر أمانة فى عنق جلالته! ولم ينفذ الملك وعوده لشيخ الأزهر، ثم حدث أن سافر فاروق إلى أوروبا لقضاء الصيف هناك، ونشرت مجلة «آخر ساعة» بعددها الصادر فى 29 أغسطس 1951 حديثا لشيخ الأزهر قال فيه إنه يستهجن الرقص فى الحفلات، كما يفعل الإفرنج، ثم أشار إلى أن الحكومة تضن بالمال على مشروعات الأزهر وعلى رجاله، ثم قال عبارته الشهيرة (تقتير هنا.. وإسراف هناك)، وما أن اطلع الملك على الحديث حتى فهم أن النقد موجه إليه شخصيا، فأرسل إشارة عن طريق اللاسلكى من اليخت الملكى إلى الديوان يأمر فيها بعزل شيخ الأزهر - الشيخ عبد المجيد سليم - فوراً، وبالفعل طلبت الوزارة من الإمام الأكبر أن يستقيل فقدم استقالته يوم 3 سبتمبر 1951 - أى بعد خمسة أيام من نشر الحديث - وصدر مرسوم بتعيين الشيخ إبراهيم حمروش خلفا له. ولم يشفع لشيخ الأزهر أنه بعث برقية تهنئة إلى الملك فاروق يوم 29 يوليو 1951 بمناسبة عيد جلوس جلالته - أى قبل 35 يوما فقط من عزله - ورد عليه الملك شخصيا ببرقية شكر تكريما لشخصه وتقديرا لمركزه. وعلى الرغم من أن الشيخ عبد المجيد سليم كان قبل ذلك يعمل فى القصر فى وظيفة (إمام بديوان الملك).. ويقول حسن يوسف باشا رئيس الديوان الملكى إن إقالة الشيخ عبد المجيد سليم كان لها رد فعل عنيف فى الأوساط الدينية ولدى علماء المسلمين، خاصة فى إيران، فأرسلوا برقيات استنكار واحتجاج على هذا التصرف.. وكان من حسنات وزارة على ماهر عندما عاد إلى الحكم أن استصدر من الملك فى 10 فبراير 1952 أمرا بإعادة الشيخ عبد المجيد سليم شيخا للأزهر من جديد.
***
وفى عام 1950 أيضاً لم تنجح محاولة لعزل رئيس مجلس الدولة - الدكتور عبد الرزاق السنهورى باشا - فقد طُلب إليه أن يستقيل من منصبه بحجة أنه كان قبل ولايته هذا المنصب وزيرا حزبيا، وكانت هذه محاولة لإقصائه عن منصبه لمواقفه فى إصدار أحكام لم تكن موضع (الرضا السامى). ولكن الجمعية العمومية لمجلس الدولة قررت فى اجتماعها يوم أول فبراير 1950 عدم شرعية هذا الطلب، وفشلت محاولة التخلص من أعظم من عرفته مصر فى التشريع والقضاء، ويكفى أنه هو الذى وضع القانون المدنى المصرى الذى يعتبر أبو القوانين المدنية فى العالم العربى، وبعد ذلك هو الذى وضع دستور دولة الكويت وقانونها المدنى وغيره من القوانين، وهو صاحب موسوعات شرح القانون المدنى والمرجع الأساسى لكل من يعمل بالقانون والقضاء.
***
وفى عام 1950 أيضاً عين الملك حسين سرى باشا رئيسا للديوان الملكى، ووصل إلى القاهرة «دوق جلوستر» لإهداء فاروق براءة تعيينه جنرالا فخريا فى الجيش البريطانى، ولم توجه الدعوة إلى رئيس الديوان لحضور هذا الاحتفال عقابا له، لأنه لم يحضر جنازة حسين فهمى صادق بك السكرتير العام السابق لوزارة المواصلات - والد الملكة ناريمان الذى توفى قبل الإعلان رسميا عن خطبة فاروق لها - وكان فاروق قد أمر بأن يشترك جميع كبار رجال القصر فى الجنازة واعتذر حسين سرى باشا عن عدم المشاركة بدعوى المرض، وبعد أيام أصدر الملك فاروق أمرا بتنحية حسين سرى باشا، وقام كريم ثابت بإبلاغ الأمر إلى الأمين الثالث بديوان كبير الأمناء، فقدم سرى باشا استقالته لأسباب صحية، وصدر الأمر الملكى بقبولها.
لقد كان الرجال الكبار لعبة فى يد فاروق.. ملك لا يعرف أقدار الرجال.
وكانت هذه بداية النهاية