فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 30 )
فى عامى 1950 و1951 طلب فاروق من الحكومة اعتماد مليون و132 ألف جنيه لإصلاح اليخت الخاص (المحروسة)، كما طلب زيادة المخصصات الملكية إلى 122 ألف جنيه واستجابت الحكومة – طبعا - للطلبين فورا فى وقت بلغ العجز فى الميزانية 16 مليون جنيه، وكان سيف الغلاء مسلطا على رقبة الشعب. بعد ذلك طلب من الحكومة أن تسهل له الحصول على قروض دولارية واستجابت الحكومة، وبدأ فى التلاعب فى البورصة والاستفادة من احتكار سوق الطن بالاشتراك مع مجموعة من الرأسماليين والمسئولين الكبار فى الحكومة، وفى تقرير للسفير البريطانى إلى وزارة الخارجية البريطانية يصف السفير الضرر الذى لحق بسبب ذلك بصغار التجار ومنتجى ومستهلكى القطن فى الداخل، والأثر السيئ الذى تعرض له فى الأسواق الخارجية. واشتد نهم فاروق فى امتلاك الأسهم والشركات، فاشتد نهم الكبار فى القصر أيضا إلى جمع الثروة بأية وسيلة، ومنها ابتزاز الأموال المتعلقة بالتموين وعقود المقاولات والمشروعات العامة.
بعد ذلك ازداد جشع فاروق فى جمع الثروة فضم آلاف الأفدنة من أجود الأراضى الزراعية إلى أملاكه الخاصة فيما كان يسمى (الخاصة الملكية) حتى بلغت أملاكه 48 ألف فدان بخلاف أراضى الأوقاف التى كان يديرها ويستولى على أموالها باعتباره (ناظر الأوقاف) وكانت 93 ألف فدان، احتفظ بالوثائق الخاصة بالأوقاف لديه، وأطلق يد مراد محسن ناظر الخاصة الملكية فى ضم المزيد من أراضى الأوقاف إلى أملاكه الخاصة حتى أصبح فاروق أكبر مالك للأراضى فى مصر، وسخر للعمل فى أرضه المسجونين وعمال البلدية وعمال التراحيل والمعدمين من الفلاحين وأصبحوا عبيدا لأرض مولانا – كما تقول الدكتورة لطيفة محمد سالم أستاذ التاريخ الحديث – وكانت المحاصيل من الأرض الملكية تباع بأعلى الأسعار، وكلما كانت تضم أراضى جديدة فى مناطق صحراوية سرعان ما تمتد إليها أيدى المختصين والمزارعين المسخرين لتتحول إلى جنة.
وتذكر الدكتورة لطيفة أن فاروق أصبح يمتلك 24 قصرا واستراحة وركنا، يمتلك عددا من اليخوت منها اليخت المحروسة الذى كلف الدولة الكثير وكان ترتيبه رقم (4) بين اليخوت العالمية، وكذلك اليخت فخر البحار، واليخت فيض البحار، والذهبية ستار، غير اللنشات والقوارب، و (130) مائة وثلاثين سيارة ملكية حمراء منها عشر سيارات رولز رويس، بالإضافة إلى عدد كبير من الخيول النادرة، وعدد من الطائرات.. هذا بالإضافة إلى ما جمعه من الذهب والأحجار الكريمة وبخاصة الماس، وكان يتم تحويل المشغولات الذهبية إلى سبائك بعد صهرها فى بدروم القصر، وتوضع فى خزائن حديدية، ثم ترسل إلى الخارج مع العملات الذهبية.. وقد ابتدع فاروق الحيل لتهريب الثروات إلى الخارج ابتداء من سنة 1946 التى اشتعلت فيها المظاهرات ضده وداس فيها الطلبة صورته بالأقدام.
كما بدأ فى إيداع الأموال فى حسابات سرية فى بنوك الدول الأجنبية خاصة أنه منذ ذلك الوقت ظل يردد أقوالا تدل على خوفه من المستقبل ويقول إن الملكية سوف تنتهى من العالم ولن يبقى إلا ملك بريطانيا وملك الكوتشينة!
***
ومن القصص المضحكة أن فاروق طلب من حكومة الوفد سنة 1951 أن تصرف له مخصصاته المالية مقدما عن سنة قادمة لأنه يمر بضائقة مالية، وعندما سافر إلى أوروبا فى رحلة شهر العسل بعد زواجه من ناريمان، وهى الرحلة التى امتدت شهرا ونصف الشهر قضى خلالها شهر رمضان وعيد الفطر فى كازينوهات القمار والملاهى الليلية، كان يبدد الأموال بصورة جعلت الصحف فى الدول الأوروبية تنشر أخباره وتصرفاته وصوره على موائد القمار؛ وكانت تطلق عليه (مغامرات ملك مصر) التى أصبحت حديث المجتمعات فى العواصم الأوروبية، وأطلقت بعض الصحف على المواكب الملكية اسم (السيرك الملكى المتنقل لملك مصر) ونشرت صحيفة التيمس البريطانية الكثير عن فضائح فاروق وقدرت نفقاته بما يزيد على مائة ألف جنيه إسترليني كل يوم بما يساوى مليون جنيه بسعر العملة الآن، وتحملت السفارات المصرية فى العواصم الأوروبية الكثير من الحرج لأنها كان عليها أن تقابل المسئولين فى وزارات الخارجية للاحتجاج على الإساءات التى توجه إلى ملك مصر وعلى الأخبار المسيئة والرسوم الكاريكاتيرية التى تنشر عنه فى الصحف. وحاولت الحكومات أن تطلب من الصحف أن تخفف مما تنشره ولكن الصحافة الأوروبية تتمتع بالحرية والاستقلال عن الحكومات، حتى أن وزير الخارجية البريطانية التقى باللورد (بيفر بروك) أحد بارونات الصحافة البريطانية ورجاه التخفيف مما ينشر عن ملك مصر، إلا أن اللورد بيفر بروك رد عليه قائلا: (إذا كان ملك مصر يتصرف بدون حياء فإن الصحافة من حقها أن تتابعه دون عائق). ويذكر الأستاذ محمد حسنين هيكل فى كتابه (سقوط نظام) أن اللورد بيفر بروك أرسل إلى وزير الخارجية مجموعة صور التقطت لفاروق وهو بالمايوه على مائدة الغداء فى مطعم (كانسونى دى مارى – أى أغنية البحر) فى كابرى، وكتب اللورد بيفر بروك لوزير الخارجية: (كيف يمكن أن أحرم (الأكسبريس) من نشر مثل هذه الصور؟! ويذكر الأستاذ هيكل أن (الأهرام) نشرت فى الطبعة الأولى بحسن نية صورة للملك وهو على مائدة الطعام وكتب تحتها: (جلالة الملك وجلالة الملكة يتناولان الغداء فى كابرى) ولكن تذكر أحدهم أن هذا شهر رمضان ولا يجوز أن يعرف الشعب المصرى أن (مليكه المفدى) يتناول الغداء بهذه الحرية والعلانية فى الشهر الفضيل حتى ولو كان على سفر، وتم الاتصال فجرا بوزير الداخلية (فؤاد باشا سراج الدين) فأصدر أمرا بمصادرة الجريدة. وفى تقرير من السفير البريطانى فى مصر إلى وزارة الخارجية فى لندن تفاصيل هذه الواقعة والتقرير ضمن الوثائق البريطانية التى زالت عنها السرية.
وحاول وزير خارجية إيطاليا أن يخفف مما تنشره صحف بلاده عن فضائح فاروق فاجتمع برؤساء تحرير الصحف وكان ضمن ما قاله لهم: (إن الصحافة الايطالية لا يصح أن تعطى كل هذه المساحات لنشر الفضائح، فرد عليه رئيس تحرير صحيفة من أكبر الصحف الايطالية (الميساجيرو): (إذا كنت تصفها بالفضائح، فلماذا تريد منا أن نكتم أخبارها عن القراء) ورد عليه وزير الخارجية: (إن هذه أمور عادية بالنسبة لطاغية شرقى يتصرف كطاغية شرقى) وعلق رئيس التحرير قائلا: (إذا كانت هذه تصرفات طاغية شرقى فأية غرابة فى أن تكون أخبارا للنشر)؟
هكذا وصل الحال بملك مصر.
***
فى عام 1950 حدث تلاعب كبير فى سوق القطن وتكشفت أساليب التلاعب فى البورصة من كبار أصحاب النفوذ المصريين والأجانب، وظهر على السطح مقدار الفساد فى معاملات البورصة وأصبح ذلك حديث الناس وهم يرون المتلاعبين بالسوق يثرون ثراء فاحشا غير مشروع على حساب الطبقة المتوسطة، والطبقات الفقيرة، وبلغت الاستهانة بالرأى العام إلى حد أن أصبح سعر القطن قصير التيلة ضعف سعر القطن الطويل التيلة وهو أمر يخالف المنطق ولم يحدث من قبل. ويقول حسن يوسف باشا - رئيس الديوان الملكى – فى مذكراته (القصر ودوره فى السياسة المصرية) إن موضوع التلاعب فى البورصة كان مثار خلاف شديد بين وزير المالية وزملائه الوزراء. وحدث على مأدبة غداء أقامها الملك فاروق فى قصر المنتزه يوم 8 يونيو بمناسبة الانتقال الرسمى للملك والحكومة إلى الإسكندرية طلب فاروق من الحكومة تعديل لائحة بورصة القطن.
***
وتذكر الدكتورة لطيفة محمد سالم أن حاشية الملك فاروق الفاسدة حققت ثروات هائلة لنفسها وللملك. ومنهم أنطوان بوللى الايطالى الذى كان يعمل كهربائيا بالقصر وأصبح بذكائه من أقرب الناس إلى فاروق حتى أنه كان ينادى الملك بكلمة (شيرى) أى عزيزى بينما دللـه فاروق باسم (بلبل) بعد أن أصبح مديرا للشئون الخاصة وأنعم عليه بالبكوية وكانت غرفته قريبة من الملك ومكتبه تحت جناح الملك. وكانت من مهمة بوللى اختيار المرأة التى تتمتع بمواصفات يفضلها الملك، وعقد صفقات الملك وعملياته المالية ومضارباته المريبة وكاتما للأسرار الملكية ومرافقا للملك فى غداته وروحاته.. وبعده كان الحلاق الايطالى (جارو) ومساعده (بترو) وكان يصحبان فاروق فى الملاهى الليلية، و(كافاتسى) مدرب الكلاب، و(ميلانيزى) قائد الفرقة الموسيقية بالقصر، و(فيروتشى) كبير المهندسين بالقصر، وقد منحهم فاروق الجنسية المصرية، ومعهم (الشمشرجية) وأهمهم محمد حسن النوبى الشديد الذكاء، ومحمد حلمى حسين (صول) فى الجيش أوصله فاروق إلى رتبة (أميرالاى) (عميد) دون العرض على لجنة ترقية الضباط، ومنحه رتبة البكوية وعينه مديرا لإدارة (الركائب الملكية) وكان يكلفه بمأموريات سرية وبالمشتريات من الخارج ومنها الأسلحة، وكان له نصيب من العمولات طبعا. وكريم ثابت الذى نال المناصب فى عدة شركات وحصل على عمولات وقام بمضاربات ووساطات للبيع والشراء، وأخيرا عينه فاروق وزيرا وأنعم عليه برتبة (باشا). والياس أندراوس الرأسمالى الكبير رفيق فاروق على موائد القمار الذى يتعمد الخسارة أمامه لتكون الخسارة (رشوة مقنعة) مقابل الصفقات والغنائم التى يحصل عليها مقابل ذلك فأصبح عضوا فى جميع المؤسسات المالية، وحصل على رتبة باشا، وعين عضوا فى مجلس الشيوخ، ومستشارا اقتصاديا للخاصة الملكية لتنظيم المعاملات المالية للملك.
( هكـذا كـان فـاروق.. وكـل شـىء مسجــل فى الوثائـق الرسميـة ).