الرأى العام المستنير
الحوارات والمعارك الفكرية والسياسية التي واكبت الاستفتاء علي تعديل الدستور كانت فرصة للتعرف علي اتجاهات الرأي العام في مصر.
والنتيجة التي يصل اليها المراقب هي أن الرأي العام في مصر قادر علي التمييز بين الخطأ والصواب, وبين مايحقق مصلحة البلاد وما يمكن أن يؤدي الي الاضرار بها, وفي نفس الوقت فان الحرية السياسية سمحت بظهور الاتجاهات التي كانت تعمل في الخفاء, مع ما يمكن أن تؤدي اليه هذه الاتجاهات من مخاطر علي أمن الوطن واستقلاله. وانكشفت ايضا نوايا فرق الانتهازية السياسية وأصحاب الاقلام والألسنة المسمومة!.
وفي هذه المرحلة, والمجتمع يبدأ مرحلة انطلاق جديدة نحو مزيد من الحرية والديمقراطية, فإننا محتاجون الي دعم الرأي العام الذي يرفض دعوات الانغلاق والرجوع الي الماضي, وينحاز الي دعوات الانفتاح علي العالم والتفاعل مع ما فيه من افكار وتوجهات جديدة ولن يتحقق ذلك دون تحصين الشباب بالفكر المستنير كما نهتم بتحصين الاطفال من الامراض الوبائية.
ولاشك في صدق القول بأن انتشار فكر الارهاب دليل علي هزيمة الثقافة بمعناها الواسع الذي يشمل التعليم والتربية والرعاية الاجتماعية كما يشمل الثقافة الدينية والفنية والادبية وكل ما تنتجه مؤسسات صناعة الوعي.
أما القائلون بأن الفقر وحده هو الذي يؤدي الي خلق بيئة لنمو الارهاب فإن هذاالرأي صحيح ولكنه يغفل العوامل الأخري. فإن كان الارهاب قد ظهر في بيئة الفقراء فإن ذلك لا يعني أن كل الفقراء سيصبحون ارهابيين, فهناك الغالبية من الفقراء لم يجد الارهاب اليهم سبيلا, فضلا عن أن الارهاب لا يصلح احوال الفقراء ولكنه يزيدهم فقرا, ويقضي علي فرص اصلاح احوالهم, ويهدد المجتمع كله بفقرائه وأغنيائه وهذا يعني أن ظاهرة الارهاب مركبة من عوامل كثيرة, أهمها الفكر.. واعتقادي أن الإرهاب يبدأ في العقول.. وبالتالي فإن تحصين الشباب من الارهاب يكون بالفكر المستنير وبناء العقول ومن السذاجة تصور انه يكفي انتاج برامج اعلامية تقول لا للارهاب فالاعلانات قد تغري الناس علي شراء انواع من الصابون أو معجون الاسنان, أو المشروبات الغازية, ولكنها لا تبني العقول, ولا تغير الواقع الثقافي في المجتمع. وأذكر أن البعض نبه منذ سنوات إلي أن الحكومة فيها مجموعة سياسية ومجموعة اقتصادية ولكن لا توجد فيها مجموعة ثقافية لها استراتيجية موحدة وتتكامل اعمالها لتحقيق هذه الاستراتيجية ولا توجد صيغة تنظيمية تجمع بين وزارات التعليم والاعلام والأوقاف والثقافة والشئون الاجتماعية. وكل منها يعمل وحده مع أن المفروض أنها جميعا تعمل لتنمية الانسان المصري ولكن التكامل بينها ليس موجودا, والتكامل ليس الاتصالات التليفونية بين الوزراء وليس التنسيق ولا تبادل المعلومات, ولا الاتفاق في مجلس الوزراء الذي يجتمع ويتخذ قرارات ثم يترك التنفيذ لكل وزارة.
كذلك فإن مفهوم الثقافة التي تصنع الرأي العام المستنير في المجتمع ولدي الشباب بصفة خاصة ليس تغيير مناهج التعليم في المدارس والجامعات فقط, أو تغيير برامج الاذاعة والتليفزيون وتوجهات الصحافة فقط, أو تجديد الخطاب الديني فقط, ولكنه يشمل ذلك كله ويشمل معه وجود ساحات ومجالات للتواصل اليومي مع الشباب.. أن يجد كل شاب من يتحدث اليه ويستمع منه ويناقشه, ويفتح له صدره ويفضي اليه بما يعاني منه من مشاكل.. ومرحلة الشباب بطبيعتها مرحلة القلق والتمرد, والبحث عن قدوة والاعجاب بالمثاليات والشباب في هذه المرحلة في حاجة الي من يتفهم مشاعره ويتعامل عن قرب دون استعلاء.. ولا يكون ذلك بالخطب والمؤتمرات التي تحتشد فيها الجموع.. ولا يكون بالحديث الي الشباب من فوق منصة عالية.. ولكن يجب أن يكون بالاقتراب منه والتعاطف مع افكاره ومشاعره, ومساعدته علي مواجهة الازمات التي تقلقه أو التي يتصور أنها تعوق طريقه ولكي نحقق ذلك لابد من مراجعة السياسات الخاصة بتكوين الشباب, مادمنا متفقين علي أن ظهور أعمال الإرهاب وفكر الإرهاب دليل علي عدم نجاح هذه السياسات, ويري البعض أن وجود أعداد من الشباب تحت سن العشرين في جماعات الارهاب خطر علي البلاد يعادل احتلال الاراضي بقوة اجنبية, وقد نتفق أو نختلف مع هذه الرؤية ولكنها تدعونا إلي اعادة النظر لحماية الرأي العام والشباب من فكر الارهاب الذي يتسلل بصور وأساليب مخادعة وبدأب لا يعرف الكلل والرأي العام المستنير والثقافة هما فقط سياج الحماية للوطن وللأمن القومي.