عودة إلى فكر محمد عبده

كثير من الكتَّاب فى الغرب يبدون دهشتهم من شدة الخلافات فى العقيدة بين مسلمين ومسلمين.. حتى أصبحت بلاد المسلمين والعرب من أكثر المناطق الملتهبة فى العالم والتى توصف أحيانا بأنها مناطق نزاعات داخلية أو حروب أهلية أو اضطرابات وصراعات على السلطة أو بسبب خلافات مذهبية. بينما تؤمن كل الأطراف المتنازعة بانتمائهم وولائهم لدين واحد! ويبدى هؤلاء الكتاب دهشتهم أكثر من أن المتصارعين والمتحاربين يرددون دون كلل فى كل مناسبة وبدون مناسبة أنهم يسعون إلى تحقيق «الوحدة» بين بلادهم وشعوبهم، ويستدلون جميعا بما جاء فى القرآن من قول الله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً )بينما أمتهم ليست أمة واحدة، وصراعاتهم تدل على أن هذه الوحدة تبدو مستحيلة أو هى فى أحسن الأحوال بعيدة، مع أن المسلمين جميعا يعرفون قول الله. ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا).. وإنما يريد الشيطان أن يزرع بينكم العداوة والبغضاء.. إلى غير ذلك من توجيه الله للمسلمين.. والواقع يتناقض مع ذلك حتى إن أشد الفرق تعصبا للدين هى أشد الفرق عداء لغيرها من المسلمين.
بعض الكتاب فى الغرب يقولون إن المسلمين خالفوا دينهم، وبعض كتابات المسلمين تردد أن الحروب والصراعات بين المسلمين بسبب «المؤامرة» الخارجية مع أن الخلافات والصراعات وتبادل الاتهام بالكفر مرض قديم من قبل ظهور القوى الكبرى الحديثة والقديمة ومن قبل ظهور العولمة وقيادة أمريكا للنظام الدولى، وكل ما فى الأمر أن القوى الخارجية تستغل حالة التخلف وإساءة الفهم لدينهم.
***
وفى فكر الإمام محمد عبده ما يدل على أن انحراف المسلمين وظهور التشدد والتعصب والعداوة بينهم يرجع إليهم قبل أن ترجع إلى غيرهم، ويقول كانت الشريعة الإسلامية - أيام كان الإسلام إسلاما - سمحة تسع العالم بأسره، ولكنها تفيض اليوم عن أهلها حتى يضطروا إلى أن يتناولوا من غيرها، وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقى إليها، وأصبح الأتقياء من حملة هذه الشريعة يتخاصمون إلى سواها».
ولأن الإمام محمد عبده كانت لديه رؤية للمخاطر التى تهدد الإسلام والمسلمين، ولديه بصيرة تدرك أن خصوم الإسلام لديهم أسلحة تمكنهم من استغلال ما لدى بعض المسلمين من التعصب ورفض كل جديد فى الفكر والتفسير، وأيضا رفض كل فرقة غيرها لأنها ترى نفسها هى وحدها «الفرقة الناجية» وكل الفرق الأخرى هى «الفرق الضالة» وتؤمن بأنها تمثل «حزب الله» ويمثل غيرها «حزب الشيطان» ولأن الحالة وصلت إلى هذه الدرجة فلم يعد ممكنًا أن يتقدم المسلمون وأن تكون لهم مكانة فى العالم الحديث.. كان الإمام محمد عبده يتساءل: أين سماحة الإسلام مما كان عليه المسلمون حين كان الإمام البخارى يجلس بين يدى عمران بن قحطان وهو من أئمة الخوارج ويأخذ عنه الحديث؟. وكان عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة يجلس بين يدى الحسن البصرى شيخ التابعين ويتلقى عنه العلم الشرعى، وكان الإمام أبو حنيفة يجلس مجلس التلميذ أمام زيد بن على صاحب مذهب الزيدية الشيعى، وأين المسلمون اليوم من عصر كان فيه توافق واتفاق يجمع بين الدين والمدنية والعلم وحرية الفكر دون تعارض أو تعصب بحيث كان كل واحد يعلن رأيه ويختلف أو يتفق مع رأى غيره دون أن يوجه المختلفون لبعضهم الاتهام بالكفر أو الضلال.
***
يقول الإمام محمد عبده: «لم يظهر التكفير بين المسلمين إلا عندما بدأ الضعف فى الدين يظهر بينهم، وأكلت الفتن أهل البصيرة، وحدث الغلو فى الدين، فاستعرت نيران العداوة بين المسلمين، وسهل على كل منهم - لجهله - أن يرمى الآخر بالمروق من الدين. ويضرب المثل بما حدث للإمام أبو حامد الغزالى - شيخ الإسلام - فقد كانت كتبه تدرس فى غرناطة بكل الاحترام، وانتفع بها المسلمون فى الأندلس، ثم جاء زمن هاج الجهل بأهل غرناطة فانطلقت ألسنة «المتعالمين» بأن الغزالى «فاسق» و «ضال» فجمعوا كتبه، خصوصا أشهر وأعظم كتبه «إحياء علوم الدين» وهو كتاب لاينكر عالم مكانته فى العالم الإسلامى، ولكنهم لغبائهم أو لتعصبهم أحرقوا كل كتب الغزالى.. ولم يكن ذلك ما أصاب فقط ولكن. وصل الأمر إلى أن قال قوم يعدون أنفسهم مسلمين إن ابن تيمية «ضال مضل»، وهو - كما يعرف أهل العلم - أعلم الناس بالسنة، وأشد الناس غيرة على الدين!
وفى كتابه. «الإسلام دين العلم والمدنية» أشار الشيخ محمد عبده إلى ما يقع فيه بعض علماء الأزهر فيسارعون فى الطعن فى عقيدة غيرهم من العلماء والتشهير بهم لمجرد الخلاف فى الرأى، مع أن هؤلاء لم يجهروا بمنكر، ولم يقولوا قولا يبعد عن الكتاب والسنة.. ويكرر الإمام محمد عبده فى كتاباته أن الإسلام ليس فيه السلطة الدينية التى عرفها الغرب حين كانت للكنيسة سلطة مطلقة فى شئون الدين والدنيا، ولكن الإسلام يعطى لكل مسلم الحق فى أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من أحاديث رسوله، بدون وسيط من سلف أو خلف، مادام حاصلا على وسائل تؤهله للفهم ومن أصول الدين النهى عن الغلو فى الدين، والنهى عن أن يغلو المسلم فى طلب الآخرة ويهلك دنياه وينسى نفسه منها والله يأمر بغير ذلك بقوله تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا سورة القصص.
هكذا ينبه الإمام محمد عبده إلى حقيقة الإسلام بأنه جعل الإنسان من أهل الدنيا كما هو من أهل الآخرة، وظل يحارب الغلو والتشدد ويقول: إذا انتشر الغلو والتشدد فى الدين بين العامة فإن ذلك يؤدى إلى فساد واضطراب فى نظام حياتهم، كما أن شدة التمسك بكل ما هو قديم، وشدة الحرص على ما ورث الناس عن آبائهم وأجدادهم والحرب على كل من يحاول أن يزحزحهم عما كان عليه فكر الأقدمين، فالنتجية توهين للعقيدة وتغرير بأهلها وعودة إلى مناهج الكفار وليست مناهج المؤمنين... فالكفار هم الذين كانوا يتمسكون بما كان عليه آباؤهم ويرفضون كل ما يخالفه وحذّر الله من هؤلاء الذين يقولون: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) فهؤلاء - مثل الكفار - أعداء لكل ما يخالف فكر الأقدمين دون أن يفحصوا إن كان خيرًا مما كانوا عليه.
***
وأما خلط الدين فى السياسة فإن للإمام محمد عبده عبارات مشهورة قال فيها:
أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالى عن السياسة. ومن كل أرض تذكر فيها السياسة. ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل فى السياسة، ومن ساس، ويسوس، وسائس، ومسوس (!) ولا تقل إن السياسة من الدين، فإنى أشهد الله ورسوله وملائكته أجمعين أن السياسة من أبعد الأمور عن الدين كأنها الشجرة التى تخرج من أصل الجحيم (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإٍلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) صدق الله العظيم.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف