فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 28 )


فى حياة فاروق سر لم يكشفه لنا إلا الأستاذ محمد حسنين هيكل:
فى بداية شهر مارس 1943 أبدى الملك فاروق شكوكه من تكرار زيارة زوجته الملكة فريدة لرسام بريطانى جاء إلى مصر ضمن القوات البريطانية فى ظروف الحرب اسمه الكابتن "سيمون إلويس" كان هذا الضابط فى الأربعينيات من عمره، وقد وصل إلى مصر فى نوفمبر 1941 وألحق بقسم العلاقات العامة بقيادة القوات البريطانية فى مصر. وبعد وصوله بفترة ظهر فى مجتمعات القاهرة، يرسم لوحات زيتية لعدد من الشخصيات ضمنها السفير البريطانى السير مايلز لامبسون، والسيدة كونسويلو رولو الزوجة الجميلة للمليونير اليهودى الأشهر فى مجتمع الإسكندرية، وغيره من نجوم المجتمع المصرى- البريطانى المختلط فى تلك الفترة الغريبة. وكان هذا الضابط يعتبر نفسه "دون جوان"، وقد قال إنه يستمتع عندما يرسم لوحة لامرأة جميلة، لكن الإلهام لا يكتمل عنده إلا إذا عرف صاحبة اللوحة "بطريقة حميمة".
وقد طلب أن يرسم صورة للملك فاروق والملكة فريدة، وبدأ بالملكة فريدة فى جلسات طويلة كانت أولا فى بيت خالتها السيدة ناهد سرى زوجة حسين سرى باشا. وكان الاتفاق أن يتقاضى ألف جنيه استرلينى عن الصورة وأن يحصل على نصف هذا المبلغ مقدما، وقبل جلسات الرسم تلقى الضابط- الرسام تحذيرات من أحد مستشارى السفارة بأن يكون حريصا فى تصرفاته مع الملكة لأنه يتعامل مع مجتمع شرقى له حساسياته وتقاليده، ولذلك يجب أن يكون شديد التحفظ فى مسلكه فى حضرة الملكة. وكانت الجلسات فى قصر عابدين، ثم أبدى الضابط- الرسام شكواه للملكة من أن حركة الوصيفات من حولها ومقاطعتهن لها تفسد عليه تركيزه وأبدى أنه من الصعب مواصلة العمل فى هذا الجو، وسأل الملكة إن كان بوسعها أن تذهب إليه فى مرسم يعمل فيه لأن ذلك سيكون أدعى إلى كمال الصورة. كان هذا الاقتراح صادما لوصيفات الملكة فى البلاط. لكن الضابط الرسام أصر على أن مواصلة العمل فى قصر عابدين صعبة عليه، وتمكن من إقناع الملكة فريدة من أن تذهب إليه حيث يسكن ويعمل أيضا، وكانت الملكة فريدة فى العشرينات من عمرها، وكانت قد أنجبت ابنتين هما "فريال" و"فوزية" ولم تكن قد نجحت فى أنجاب ولى العهد الذى يكفل استمرار حكم أسرة محمد على. وكانت الملكة فريدة فى ذلك الوقت فى أزمة بسبب مغامرات زوجها، وبخاصة علاقته بالنبيلة فاطمة طوسون زوجة النبيل حسن طوسون ابن الأمير عمر طوسون، وكانت سيدة فائقة الجمال، وفى وقت من الأوقات عرض عليها فاروق الطلاق ويتزوجها هو بعد ذلك، فى تلك الأيام- كما روت الملكة فريدة- كانت علاقتها بفاروق قد ساعدت إلى درجة أنه لم يعد بين الزوجين خطاب مباشر، وكانت الصلات بينهما عن طريق الوصيفات أو سكرتارية الملك، وكان ذلك هو السبب الذى أبدته فريدة لعدم استئذان أحد- حتى زوجها- فى الذهاب إلى مرسم "إلويس" حتى يستكمل رسم صورتها. وكانت تذهب كل مرة وفى صحبتها وصيفة اسمها عقيلة هانم، وكان للقصر الملكى شبكة معلومات من السفرجية.
وكان الضابط الرسام "إلويس" يعيش ويرسم فى شقة مع اثنين من ضابط سلاح الطيران، وكانا يعرفان بزيارات الملكة السرية إلى مسكنهم ويحرصان على التسلل خارجين منه عندما تجئ، ومن سوء حظهم أن الملك فاروق جاء مرة بنفسه إلى الشقة وهم داخلها ووجدوا أنفسهم مضطرين إلى مساعدة "إلويس" على تهريب الملكة فريدة ووصيفتها من الباب الخلفى للشقة حتى لا يراها الملك. وسرت حكايات كثيرة فى مجتمعات القاهرة عن علاقة "إلويس" مع الملكة فريدة فطلب الملك فاروق- عن طريق أحمد حسين- إبلاغ السفير البريطانى فى القاهرة برغبته فى نقل الضابط "إلويس" إلى خارج مصر، ووجه الملك طلبا آخر إلى القائد العام للقوات البريطانية فى مصر. وصدر أمر بسفر "سيمون إلويس" إلى جنوب أفريقيا. وكتب اللورد كيلرن فى يوم صدور هذا الأمر "16" يناير 1942 "كان لابد من الخلاص من "إلويس" وإلا قام الملك فاروق بتطليق زوجته. وكتب "إلويس" خطابا ملتهبا إلى الملكة فريدة حجزته الرقابة البريطانية بسبب ما تضمنه.
هذه القصة فى كتاب الأستاذ هيكل الذى أصدرته دار الشروق "سقوط نظام" عن كتاب المؤلفة البريطانية "أرتميس كوبر" وعنوانه: "القاهرة: سنوات الحرب 1939 -1945" أسست المؤلفة روايتها على الوثائق الرسمية للحكومة البريطانية وتقارير المخابرات العسكرية البريطانية، وتقارير اللواء السير "توماس راسل باشا" حكمدار بوليس القاهرة وقتها.
***
وفى الوثائق البريطانية أن الأمير محمد على تحدث مبكرا جدا مع السير والتى سمارت عن أن لملك فاروق فى حالة سيئة لأنه اكتشف وجود "صداقة حميمة" بين زوجته الملكة فريدة وبين وحيد يسرى باشا، الابن الأكبر لسيف الله يسرى باشا زوج الأميرة سميحة حسين "ابنة السلطان حسين كامل" وكان فى بداية الأربعينات من عمره وجيها ناضجا ومجربا.
وكان فيما قاله الأمير محمد على وسجله السير والتى سمارت فى مذكرة رسمية بتاريخ 11 ديسمبر 1941 إن فاروق طارد زوجته الملكة فريدة إلى بيت ظنا منه أنها سوف تلتقى بوحيد باشا هناك ولكنه وجدها مع جمع من الضيوف، ولكنه تهور عليها أمامهم وفيهم الخدم.
وفى مذكرة رسمية من اللورد كيلرن إلى وزير الخارجية البريطانية عليها عبارة "شخصى وسرى" كتب يقول: "إن الملكة فريدة تعرف أن النبيلة فاطمة طوسون على علاقة حميمة بالملك فاروق وأنهما يلتقيان فى بيت الأميرة شويكار التى تكرهها الملكة فريدة ولا تطيق سماع اسمها. وقد رفضت الملكة فريدة حضور افتتاح البرلمان الذى يحضره الملك عندما عرفت أن الملك وجه الدعوة إلى النبيلة فاطمة، وعندما زارتها زوجة اللورد كيلرن وأبدت لها شعورها بالقلق لغيابها فى هذه المناسبة الرسمية قالت لها الملكة فريدة: "إن كرامتى كملكة لا تسمح لى أن أحضر هذا الاحتفال".. وعلق اللورد كيلرن فى مذكرته الرسمية قائلا: "وهذه الملاحظة من الملكة تؤكد ما وصل إلينا من معلومات، والمشكلة أن القاهرة لا يمكن الاحتفاظ بسر فيها، وكذلك فإنه يبدو لنا أننا سوف نسمح كثيرا فى الأيام المقبلة عن العلاقات بين الزوجين الملكيين".
***
وفى يوم 24 أبريل 1945 كتب اللورد كيلرن إلى حكومته يقول: "أتشرف بان أبعث إليكم بصورة تقرير سرى كتبه مصدر موثوق فيه على اتصال بنا "كريم ثابت" عن واقعة بطلتها سيدة اسمها "ليلى شيرين" ضبطت على مدخل جناح الملك فاروق فى قصر عابدين وتحول مشهد ضبطها إلى فضيحة شهدتها الملكة فريدة وشاركت فى وقائعها.. والسيدة التى ضبطت على مدخل الجناح الملكى سيدة "متسامحة فى الفضيلة"، وقد أصرت الملكة فريدة على إبلاغ النائب العام بوجود "سيدة غريبة" على باب جناح الملك قريبا من جناحها، وانتهى التحقيق بتقديم شهادة من مستشفى الدكتور "جيلات" بأن هذه السيدة كانت تعالج بالمستشفى من اضطرابات عصبية. ويستطرد اللورد كيلرن فى مذكرته إلى الحكومة البريطانية قائلا: من نتيجة الحادث أن الملكة فريدة صممت على طلب الطلاق قائلة إنها تريد أن تترك القصر وتعيش وحدها مع بناتها وتترك فاروق ليفعل ما يشاء.
وكتب السفير البريطانى اللورد كيلرن فى مذكرته إلى الحكومة البريطانية أن الملكة فريدة طلبت مسدسا من غرفتها لأنها لابد أن تقتل هذه المرأة، وتحت التهديد اعترفت المرأة بأنها جاءت إلى الجناح الملكى عدة مرات من قبل عندما كان الملك يدعوها بنفسه أو بواسطة مكتب الشئون الخاصة "بوللى بك" وقد أبلغوها بأن جلالة الملك يطلبها وأن كلمة السر فى القصر الليلة هى "المنتزة" وقالت الملكة إنها لمحت فى يد هذه السيدة خاتما عليه صورة للملك فاروق واعترفت لها بأنها تلقت الخاتم هدية منه. وقامت الملكة بإخطار مراد محسن باشا ناظر الخاصة الملكية، وأحمد صادق باشا قائد الحرس الملكى، والأميرالاى عثمان المهدى بك الياور النوبتجى ليلتها، ثم اتصلت الملكة فريدة بنفسها برئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى باشا، وأصرت على إبلاغ النائب العام بالواقعة وكذلك إبلاغ مأمور قسم عابدين.
والظاهر من التحقيقات أن الملك فاروق واعد ليلى شيرين على اللقاء بعد عشاء يحضره مع الوفد المصرى المسافر إلى سان فرانسسكو للمشاركة فى وضع ميثاق الأمم المتحدة، ولكن العشاء ألغى ونسى الملك إلغاء موعده الغرامى الذى رتبه بعد العشاء، وذهب إلى الفيوم، وجاءت ليلى فى موعدها ولم تجده.. وبعد مشاورات بين الحكومة والقصر تقرر اعتبار هذه السيدة مجنونة وبالفعل أودعت مستشفى الأمراض العقلية!
لكن الملكة فريدة أبدت رضاها لأنها حصلت من هذه السيدة على اعتراف كامل يثبت استهانة فاروق بكرامتها كزوجة، وبقصر عابدين كمقر للعرش، وأضافت: أن فاروق بعد ذلك لا يحق له أن يرفع عينه فيها أو يحاسبها على شىء!
وأخيرا قرر فاروق تلبية طلب الملكة فريدة بالطلاق فى شهر نوفمبر 1948 فى وقت كان شديد الخطر على الجيش المصرى فى فلسطين وكانت القوات الإسرائيلية قد تمكنت من احتلال شمال النقب وقسمت الجيش المصرى إلى قسمين كل منهما معزول عن الآخر. كان هذا هو الظرف الذى اختاره الملك فاروق لإتمام طلاقه، ومعه طلاق ثان هو طلاق شقيقته فوزية من زوجها شاه إيران محمد رضا بهلوى. وكان الاختيار مقصورا على أن تغطى الأحداث الكبيرة الجارية على أخبار الطلاق الملكى.
لكن فضائح الملوك لا يمكن أن تغطيها الأحداث.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف