أنيس منصور.. معارضاًَ !

قبل ثورة 25 يناير 2011 بدأ أنيس منصور يعلن موقفه المعارض للنظام القائم ويهيئ الرأى العام للتغيير القادم ولكن - كالعادة - أسدل خصومه ستار النسيان على ما قاله وما كتبه فى هذه الفترة، مع أنه قال وكتب الكثير مما يجعله واحدا من الذين أسهموا فى تكوين الرأى العام الغاضب الذى حرك الشباب والجماهير وحول الغضب إلى ثورة.
قبل الثورة - وفى سطوة النظام السابق - قال فى حديث مع نشوى الحوفى فى صحيفة المصرى اليوم (عدد أول ديسمبر 2009) إن مصر أصبحت كجسد استفحل فيه المرض لدرجة أن التفكير فى العلاج بات نوعا من الترف، والبكاء والدعاء لله ليشفيها أيضا بات نوعا من الترف.. حالة ميئوس منها ومهما أمددنا هذا الجسد المنهك بالمرض بالدواء فإنه لن يجدى.
و بصراحة أكبر قال: «العيب فى الحاكم والمحكوم، فالحاكم محاط بحاشية تؤثر فى الحاكم، وتجعله لا يرى الحقيقة ولا يبحث عن الحلول الصحيحة، وأتذكر نكتة تعبر عن حالنا تقول إنه فى إحدى الليالى عثر شرطى على رجل يدور حول عامود نور فسأله عما يفعل فأجابه بأنه يبحث عن مفتاح شقته الذى وقع منه، فسأله الشرطى: هل وقع هنا؟ فأجابه: لا.. وقع فى أول الشارع! سأله الشرطى: ولماذا تبحث عنه هنا؟ فقال الرجل: لأن هذه المنطقة فيها النور(!) وعلق قائلا: هكذا يفعل النظام.. لا يبحث عن المشاكل بالطريقة الصحيحة ولكن يبحث عنها بجوار الحاشية، وإذا فسدت الحاشية فسد النظام كله، وكلما قوى النظام ضعفت الحاشية، وهناك عبارة شهيرة للمؤرخ البريطانى اللورد تقول: «القوة مفسدة، والقوة المطلقة مفسدة مطلقة».
أليست هذه معارضة صريحة وتحريضًا على الثورة وصيحة من ضمير كاتب فى وقت اشتد فيه الظلام؟
***
قبل ذلك نبّه وأبدى الكثير من الغضب ففى أهرام يوم 9 أبريل 2006 - قبل الثورة بما يقرب من خمس سنوات - كتب فى عموده «مواقف»: لا تسأل الحاكم من الذى فرعنه ولكن اسأل المحكوم الذى أذله الحاكم وجعل خده مداسا وهوانه لباسا، من الذى قطع لسانه فلا يصرخ؟ من الذى أضاع الطريق من قدميه..؟ نريد أن نعرف أين نحن؟ نحن يا سيدى فى الباى باى.. فى الكازوزة.. فى أبو نكلة.. أليست هذه عباراتنا الذهبية ونشيدنا القومى؟ إذا هربنا بأموال البنوك فلصوص محترمون، وإذا نهبنا المال العام فلدينا محامون بارعون.. هل لا يزال عندنا أمل؟ هناك أمل وحل.
وفى صحيفة الشرق الأوسط التى تصدر فى لندن كان يكتب عمودا يوميا، وفى عدد 4 يونيو 2006 كتب: «زمان كنا نقول إن القانون سيف على رقاب العباد، واليوم نقول إن القانون لا هو سيف ولا هو فوق رقاب العباد إنما القانون يقول للقوى شبيك لبيك عبدك بين إيديك، ولا تزال القصة الشهيرة فى التاريخ الألمانى رمزا للعدالة، حين أراد الإمبراطور الألمانى أن يوسع حديقة قصره اعترض المشروع وجود كوخ لفلاح غلبان فأمر الإمبراطور بإزالة البيت لكن الرجل الغلبان ذهب إلى المحكمة وصدر حكم القاضى ببقاء الكوخ وأحنى الإمبراطور رأسه لحكم القضاء ودارت أسوار القصر حول الكوخ، وظل بقاء هذا الكوخ دليلا على أن فى ألمانيا قانون وقضاة وعدالة وإمبراطور ينزل على حكم القانون والقضاء، ورحم الله عمر بن الخطاب.
هل تخفى الفكرة التى أراد أنيس منصور أن يقولها من رواية هذه القصة؟
***
ومما كتبه فى عموده «مواقف» فى الأهرام فى عام 2006 - قبل الثورة بخمس سنوات تقريبا - منها مثلا:
* فى يوم 4 مارس 2006 كتب «نحن فى زمن هو عار الأزمان.. كانت لك كرامة.. وفى الظلام لا تعرف حكامنا ولصوصنا وقضاتنا وجلادينا.. والعدل أخرس والظلم فصيح.. فيارب إن كان هذا هو الطوفان فقد غاب عنا نوح فماذا نطلب منك يا رب؟ لا يحضرنا إلا قولك: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا)

* وفى 25 مارس كتب: «فى بريطانيا يطاردون رئيس الوزراء لماذا يقضى إجازته فى إيطاليا مجانا عند صديقه بيرلسكونى رئيس الوزراء فى شرم الشيخ وعلى حساب الحكومة المصرية.. هناك من حق الشعب أن يسأل وأن يطمئن على أمانة رئيس الوزراء؟
أليس فى هذا إشارة إلى ما كان يحدث فى مصر دون أن يُسأل أحد أو يحاسب؟
وفى 11 مارس كتب.. نحن جعلنا أبواب السجون ضيقة حتى لا يدخلها الكبار والحيتان والقطط السمان، فإذا سرق أحدنا رغيفا انطبقت عليه جميع مواد قانون العقوبات، وإذا سرق الكبار أموال البنوك فلا عقوبة لأن أبواب السجون ضيقة.. هل هناك أمل فى أن يلقى عقوبة أحد ممن سرقوا وارتشوا وتهربوا وهربوا.. الجواب: لا، لأنه كلما كانت الجريمة كبيرة كان العقاب صغيرا أو لا عقاب وإنما إعجاب وألقاب.. واللص الكبير لأنه كبير فهو فى حصن حصين، وأمن متين، وحماية ذاتية وسلامة وراثية (!). فمن الذى بدد الشباب وأرهق الحياة وسحق الإيمان؟ إنه الذى أصدر عفوا عن كل جريمة وألغى كل عقوبة وشطر الناس إلى لص صغير ومجرم خطير، إلى سارق الرغيف وسارق الملايين؟
***
وبعد تزوير انتخابات مجلس الشعب كتب: كيف يقول واحد إنه ناجح فى الانتخابات وإن وجوده شرعى، وإن العبيد فى الشوارع هم الذين اختاروه.. إن الذى حدث فى مصر ولمصر هو هتك عرض الديمقراطية. إنه إكراه سياسى.. ما اسم هذه اللعبة السياسية التى يكون فيها الحر عبدا.. ما اسم هذه الدعارة الأخلاقية.. وليس لأحد أن يباهى الأمم بأى شىء، وإنما يجب أن نتوارى وأن نستر عارنا وأن نوهم أنفسنا بأنها خطوة على طريق الديمقراطية.
وكتب فى 11 ديسمبر 2005: بم يعد هناك حوار أو موضوع مشترك.. فالحاكم لا يقرأ وإذا قرأ سد أذنيه وعينيه وعقله فكأن أحدا لم يقل، ونحن الذين فرضنا على أنفسنا الهوان.. ونحن الكُتّاب أصبحنا مثل الفرق الموسيقية فى الأفراح لا أحد يستمع إليها.
وفى 12 ديسمبر 2005 كتب: لقد قالها المتنبى وهو يقصد مصر «يا أمة ضحكت من أجلها الأمم.. كيف وصلنا إلى ما نحن فيه وهانت علينا أنفسنا وهانت بلادنا.. وكل ما حولنا طواحين هواء تدور فتسمع جعجعة ولا ترى طحنا، وينطبق علينا قول حافط إبراهيم:
لقد كان فينا الظلم فوضى فهذبت
حواشيه حتى بات ظلما منظما
ولا يسعنا إلا أن نتجه إلى السماء ونقول مع أمير الشعراء شوقى:
عبادك رب قد جاعوا بمصر
أنيلا سقت فيهم أم سرابا
حنانك وأهد للحسنى تجارا
بها ملكوا المرافق والرقابا
ورقق للفقير بها قلوبا
محجرة وأكبادا صلابا
أمن أكل اليتيم له عقاب
ومن أكل الفقير فلا عقابا
ولم أر مثل سوق الخير كسبا
ولا كتجارة السوء اكتسابا
هذا بعض ما كتبه أنيس منصور وله غيرها مئات المقالات التى نشرها فى «مواقف» فيها معارضة، وتحريض، وإزالة الغشاوة عن العيون، ولكن مشكلة أنيس منصور أنه كان مصنفا عند بعض الناس وهؤلاء تمكنوا من أن يرسموا له صورة ذهنية لدى القراء تخالف ما كان عليه.. صحيح أنه كان يجامل لكى يحتفظ بقدرته على أن يقول وينشر ما يريد مما يعبر عن رأيه الحقيقى بعيدا عن ستار المجاملة، وكثيرا ما كان يدس بين السطور إشارات تدعو الشباب إلى أن يتحرك ويردد قول شوقى:
تحرك أبا الهول فهذا زمان
تحرك فيه حتى الحجر
وبعد أن قامت الثورة ساندها وله أحاديث منشورة فى تأييدها ودعوة شبابها إلى أن يواصلوا جهادهم إلى أن يحقوا أهداف الثورة كاملة.
ودراسة الفكر السياسى لأنيس منصور مهمة صعبة لأنه كان يدعى أنه ليس كاتبا سياسيا مع أن ذلك صحيحا ولكنه فقط كان يخلط رأيه السياسى بآرائه الاجتماعية والفلسفية. وأرجو أن أستكمل هذا الحديث قريبا.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف