عشوائيات فى السياسة و الثقافة
بعد أن ظهرت وانتشرت العشوائيات في أحياء متفرقة من المدن الكبري في مصر وتحولت إلي مشكلة, ظهرت وانتشرت عشوائيات أخري في الفكر, والسياسة, والصحافة, وهذه مشكلتها أكبر.
الأحياء العشوائية نشأت نتيجة قصور الأداء الحكومي في إسكان الفقراء, كذلك نشأت عشوائيات الفكر والسياسة والصحافة نتيجة قصور مؤسسات الثقافة الرسمية والأحزاب والصحافة القائمة, وهذا ما أدي إلي ظهور تيار التمرد بصورة تبدو جديدة علي المجتمع المصري, وشجعت الظروف الداخلية والخارجية هذا التيار علي أن يتحرك بنشاط ويصبح له صوت عال, مما يجعله يبدو بحجم أكبر من حجمه.
في الفكر انتشرت ظاهرة رفض بعض المثقفين التعامل والتعاون مع المؤسسات الثقافية الرسمية, وظهر من يتجه إلي منصة معدة لتكريمه ومنحه جائزة حكومية, وبدلا من أن يتسلم الجائزة ويشكر هذا الاعتراف والتكريم, يعلن علي الملأ رفض الجائزة. وظهر من المثقفين من يرفض نشر مؤلفاته عن طريق أجهزة الثقافة الحكومية. وليس غريبا بعد ذلك أن يتسابق شعراء وكتاب في إعلان صيحات النقد الذي يخرج عن الحدود, ويصل إلي درجة الهجوم والكراهية. كل ذلك والمؤسسة الثقافية الرسمية
تتجاهل ما يجري وتترك هذه العشوائيات تنمو وتزداد تمردا وتهجما, وكان الأجدي أن تبذل جهدها لاستيعاب هذا التيار أو علي الأقل التخفيف من حدة الشعور بالتهميش الذي تعانيه, وإيجاد جسور بدلا من الإبقاء علي الفجوة التي تتسع.
وفي السياسة, ظهرت حركات جديدة ليس لها هدف سوي إعلان الرفض والنقد.. ليس لديها برنامج سياسي أو مشروع قومي أو أيديولوجية سياسية واحدة تجمع بين أفراد كل منها.. كل من فيها يعبر عما لا يريده.. ولا يعرف ما الذي يريده..
وتبدو العشوائية في تعدد هذه الحركات, بينما يجمع بينها خيط واحد لكنه مقطوع, فليس هناك فارق يذكر بين حركات كفاية ومحامون من أجل التغيير, ومثقفون وفنانون من أجل التغيير وأمثالها. كلها حركات صغيرة العدد ليس لديها وسيلة سوي المظاهرات ومواقع الإنترنت والفضائيات العربية والأمريكية.
هكذا أصبحت لدينا قوي سياسية منظمة وشرعية, ممثلة في الأحزاب, وقوي أخري محدودة العدد والتأثير, تعمل عشوائيا خارج إطار الأحزاب الشرعية. وهذا يعني أن الأحزاب القائمة مقصرة في العمل علي استيعاب هذه الحركات, ولابأس من أن تكون أجنحة داخل كل حزب يتفق مع توجهات كل منها, ولكن بقاء هذه الحركات خارج التنظيمات السياسية يعني أيضا أنها لا تملك الإرادة والمقدرة علي العمل السياسي المنظم في إطار الشرعية.
ولو كانت تمتلك الوعي السياسي حقيقة, لكانت قد أدركت أن انضمامها إلي الأحزاب القائمة, أو العمل علي إنشاء حزب جديد هو الطريق الصحيح لممارسة العمل السياسي, وللعمل علي التأثير في القرار السياسي. ولكن يبدو أنها تدرك أن بقاءها في هذه الصورة العشوائية وممارستها لهذا الشغب السياسي أفضل بالنسبة لها, لأن انضمامها إلي أحزاب قائمة أو إنشاء حزب جديد لها سوف يكشف حقيقة حجمها وتأثيرها, ووجود منابر شرعية تسمح لها بالتعبير عن مواقفها بحرية يحرمها من تشكيل تجمعات الهياج والصياح في الشوارع.
كذلك فإن وجودها المنظم داخل حزب أو أحزاب متعددة سوف يفرض عليها الحوار وطرح أفكار وبدائل ويجعل صيحاتها خروجا علي النظام, وينقلها من حالة العشوائية إلي حالة الممارسة السياسية الحقيقية, وهي ليست مؤهلة لذلك. وقد يكون علي قيادات هذه الحركات أن تتقدم للترشيح في الانتخابات التشريعية أو المحليات, وحينئذ سوف يظهر حجمها الحقيقي.
ربما تكون هذه الحركات قد نقلت العمل السياسي إلي الشارع, وربما تكون قد أعطت الزخم للحراك السياسي الذي شمل الأحزاب وأخرجها من الجمود الذي كانت عليه, لكن ذلك لا يغير من الواقع شيئا, وهو أنها حركات عشوائية هلامية لن يكون لها تأثير في الحياة السياسية, إلا إذا اكتسبت الشرعية وانضوت في أحزاب هي الإطار الشرعي للممارسة الديمقراطية الرشيدة.