فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 26 )
لكى تكتمل الصورة عن خفايا وأسرار حريق القاهرة لابد أن نقرأ ما كتبه حسن يوسف باشا، فقد عاش سنوات طويلة قريبا جدا من (مطبخ السياسة المصرية) فى القصر الملكى، وكان من موقعه يعرف أسرار الدولة العليا، ويشارك فى بعضها أحيانا. من موقعه القريب جدا من فاروق. بدأت صلة حسن يوسف بفاروق سنة 1935 عندما كان فاروق ولياً للعهد وأرسله والده إلى انجلترا للدراسة.. كان حسن يوسف وقتها سكرتيرا فى المفوضية المصرية فى لندن (قبل رفعها إلى سفارة) وانتدبه الوزير المفوض فى لندن (حسن صبرى) ليكون ضابط اتصال بينه وبين مقر إقامة فاروق، وفى سنة 1938 عُيّن حسن يوسف مديرا لمكتب الصحافة بوزارة الخارجية ثم مديرا لمراقبة النشر فازدادت صلته بالقصر فقد كانت مهمته مراقبة ما تنشره الصحافة فى الخارج عن فاروق والأسرة المالكة، ثم عُيّن فى سنة 1942 مديرا للإدارة العربية بديوان الملك ثم وكيلا للديوان الملكى سنة 1944 ورئيسا للديوان بالنيابة على فترات، وبالإضافة إلى ذلك كانت له وظيفة أخرى خطيرة هى (كاتم سر) مجلس البلاط الملكى وحامل أختام الملك.. وهكذا فإن ما قاله فى مذكراته التى صدرت عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام عام 1982 هو شهادة شاهد عيان موثقة، ورؤية للأحداث من الداخل.. من داخل الكواليس وليس من مقاعد المتفرجين.
يصور حسن يوسف باشا كيف كان المناخ العام فى البلاد ينذر بعدم الاستقرار السياسى، وباهتزاز الموقف الاقتصادى بسبب التلاعب فى أسعار القطن، وقد تطلع الشعب إلى الملك فوجدوه لاهيا عنهم، وإلى حزب الوفد- حزب الأغلبية- فرأوه ضالعا مع القصر، ومع ذلك فإن وزراءه يضيقون بتصرفات رجال الحاشية الملكية غير المسئولة، وتطلع الشعب إلى الأحزاب الأخرى فوجدوها منشغلة بتقسيم الدوائر الانتخابية.. وأما الإنجليز فقد أفزعهم أن الوفد هو الذى يلغى المعاهدة ويصعّد المقاومة فى القتال ويثير غضب الشعب على قوات الاحتلال، ويضاف إلى ذلك شعور بالضيق بين طلبة الجامعات ورجال الأزهر بعد أن أخرجت الوزارة الشيخ عبد المجيد سليم- شيخ الأزهر- استجابة لرغبة الملك وكان هو الرجل الصالح فى المكان الصالح، وكذلك كانت الحالة فى جامعة القاهرة التى عبّر عنها مديرها الدكتور عبد الوهاب مورو باشا وهو يستقيل من منصبه.
ويعلّق حسن يوسف باشا على تلك الحالة بأن تلك الصورة الشاحبة التى أصبحت عليها الأحزاب السياسية ترتب عليها ازدياد شعبية الجماعات السياسية المتطرفة ومن بينها الإخوان، والشيوعيون، وحزب مصر الفتاة.. وقبل ذلك حدثت اضطرابات جامعة القاهرة التى فرق فيها الطلاب صور الملك فاروق وهتفوا ضده، وقام رجال الشرطة بمظاهرات فى القاهرة والإسكندرية، وازدادت المظاهرات التى تهتف (نريد الخبز والعمل).. وامتلأت صحيفتا حزب مصر الفتاة (جريدة مصر الفتاة) و(جريدة الشعب الجديد) بالمقالات التى تندد بالنظام الملكى، وكانت صحيفة مصر الفتاة تصدر كل خميس بعنوان بارز (الثورة.. الثورة) ومقالات عن نهاية حكم الطاغية لويس السادس عشر فى فرنسا.. ويقول حسن يوسف إن الملك فاروق كان يطلع على تلك المقالات ويأمرنى أن أتصل بالنائب العام فيأمر بالتحقيق.. وكان ذلك يتكرر بصفة منتظمة.. ووسط هذا الجو المضطرب، وبينما حوادث القنال تتصاعد راح فريق من حاشية الملك غير المسئولة يبث العراقيل أمام الوزارة القائمة، وكان منهم إلياس أندراوس باشا، وكريم ثابت باشا، على الرغم من أن تلك الوزارة وقفت إلى جانب الملك فى إخراج هيكل باشا من رياسة مجلس الشيوخ وإخراج عدد من أعضاء مجلس الشيوخ، وهى التى اعتذرت للملك عن تحقيقات الأسلحة الفاسدة، وهى التى أعدت مشروع قانون قدمته إلى مجلس النواب بفرض القيود على الصحافة فى نشر أخبار الملك.
***
فى حرائق يوم 26 يناير 1952 تم إتلاف 700 محل، و12 حانة ومخزن للخمور، و73 صالة رقص ومطعم ومقهى، و40 دارا للسينما، و16 ناديا، و10 متاجر للسلاح، و8 محلات لبيع السيارات، و13 فندقا، وبنك واحد هو بنك باركليز، و30 مكتبا للشركات، و300 متجر، و117 مكتب أعمال وشقق سكنية.
وأعد النائب العام تقريرا عن الأحداث فيه ما يدعو إلى التساؤل: لماذا لم يؤخذ بنصيحة مدير الأمن العام بإرجاء الدراسة فى الجامعات؟ وكانت الجامعات قد أغلقت يوم 27 ديسمبر 1951 بسبب المظاهرات وتقرر استئنافها يوم 26 يناير؟ وقد اقترح مدير عام البوليس فتح الكبارى لمنع وصول المظاهرات من الجيزة إلى قلب العاصمة كما اقترح مبكرا الاستعانة بقوات من الجيش ولم يؤخذ بالاقتراحين.. لماذا؟.
يقول حسن يوسف باشا إنه لا يمكن أن يتصور أحد أن المظاهرات تقوم من الصباح الباكر (السابعة صباحا) ولا تقمع إلا بعد الغروب، وأن تحترق العاصمة على امتداد ساعات النهار وطرف من الليل.. ولن يستطيع أحد أن يدعى معرفة حقيقة ما غشى المسئولين من ذهول أدى إلى التقاعس فى مواجهة الموقف. ولكن هناك موقفا يحتاج إلى وقفة، فقد ازدادت المظاهرات ضد الملك فاروق بدأت بمظاهرة يوم 26 ديسمبر 1951 ومظاهرة أكبر يوم 16 يناير 1952.
***
وقف على ماهر باشا شاهدا أمام المحكمة العسكرية العليا التى كانت تنظر قضية التحريض على حريق القاهرة فقال إن حريق 26 يناير 1952 لا يستبعد أن تكون أيد أجنبية وراءه، ولا يمكن أن يكون هؤلاء الأطفال وحدهم هم الذين كانوا يقومون بهذه الأعمال.. ثم إن الأدوات التى استعملت فى الحريق كانت غريبة.. وقد تبين لنا أن هناك يدا أجنبية متفقة مع يد وطنية على تدبير تلك الحوادث.. هذه كانت شهادة على ماهر الذى تولى رياسة الوزراء فى مساء يوم الحريق بعد إقالة وزارة النحاس وفرض الأحكام العرفية. ومن المثير ظهور فرق استعانت بجهاز لصهر المعادن بالأوكسجين لفتح الأبواب الحديدية الضخمة لإحدى الشركات الأجنبية، كما ثبت أن بعض المتظاهرين كانوا يحملون قنابل ومفرقعات ومواد ناسفة ومسدسات مصنوعة فى الخارج لا يقدر على استعمالها إلا أشخاص مدربون.
قصة غريبة يرويها حسن يوسف باشا يقول فيها إن حافظ عفيفى باشا شهد أمام محكمة الغد- يوم 31 مايو 1953- بعد الثورة.. بأنه سمع أن الوزير المفوض لبولونيا كان له ضلع فى حوادث 26 يناير، وقالت تقارير الشرطة إنه آوى - بدار المفوضية - أحد المتهمين فى الحريق، وهذا الوزير المفوض كان يلقب بلقب (الكونت الأحمر) وزوجته يهودية شيوعية من أصل روسى، وكان السفير البريطانى فى القاهرة قد بعث بخطاب شخصى إلى وزير الخارجية المصرية قال فيه إن هذا الوزير المفوض كان ممثلا لبلاده فى كولومبيا والمكسيك وغيرهما من دول أمريكا اللاتينية وكان له فيها نشاط هدّام، ولم يلتفت وزير الخارجية إلى هذا الأمر بسبب توتر العلاقة بين مصر وانجترا فى ذلك الوقت بسبب فشل مفاوضات المعاهدة. وبعد انتهاء التحقيق فى أحداث 26 يناير بادرت وزارة الخارجية المصرية إلى طلب سحب هذا الوزير المفوض، وغادر مصر يوم 12 أبريل 1952 ولم يكن قد أمضى فى مصر سوى سبعة أشهر، وقد رفض العودة إلى بلاده والتجأ إلى المكسيك.. ويقول حسن يوسف إن أحد أفراد أسرته شاهد فى النصف الثانى من شهر ديسمبر 1951 شاحنة تحمل عدة صناديق وكان الصندوق الواحد يحمله اثنان أو ثلاثة من العمال.. وكان سكرتير المفوضية يشرف على ذلك.. ويربط بين هذه الواقعة وبين ما نشرته (الأهرام) من أنه فى الفترة من أكتوبر إلى ديسمبر 1951 أبحرت ثلاث سفن بولونية من ميناء على بحر البلطيق إلى الصين تحمل أسلحة وذخائر وأن بعض هذه الأسلحة تم تفريغها فى الطريق، فى الإسكندرية!
***
وشهادة أخرى غريبة أدلى بها عبد المجيد عبد الحق وزير الدولة فى حكومة 26 يناير 1952 قال فيها إن الحكومة المصرية تلقت تحذيرا بريطانيا قبل الحريق بأيام من احتمال حدوث اضطرابات وسؤالها للحكومة إن كانت قادرة على حماية القاهرة.
يناقش حسن يوسف باشا الرأى القائل بأن فاروق هو الذى دبّر الحريق لكى يتخلص من حكومة الوفد فيقول إن فاروق لم يكن بحاجة إلى حريق كان يمكن أن يصل إلى قصر عابدين، ولم تكن إقالة حكومة الوفد مستحيلة فقد سبق أن أقال النحاس باشا أكثر من مرة، وكان يكفى أن يطلب رئيس الوزراء مقابلة الملك فلا يجاب إلى طلبه ويدرك أن مطلوبا منه الاستقالة، أو أن يتباطأ الملك فى توقيع المراسم التى ترسلها الحكومة.. ويستشهد بما جاء فى كتاب الرئيس أنور السادات (البحث عن الذات) صفحة 137 فقد قال: (لم يعرف حتى الآن من الذى دبّر حريق القاهرة، ولكن الهدف كان واضحا لدى الجميع، فمما لا شك فيه أن حريق القاهرة كان موجها ضد الملك، كما كان تعبيرا عنيفا عما يلاقيه أكثر من 95% من الشعب- وهى القاعدة العريضة التى حرمت فى كل نظام طبقى رأسمالى صارخ من كل شىء). ويعلق حسن يوسف باشا بقوله: (واقع الأمر أن حالة من القلق والتذمر كانت تسود جماهير الشعب..
هذه رؤية واحد من أقرب الناس إلى فاروق فى تلك الأيام، وهى أن حريق 26 يناير كان انفجارا شعبيا تعبيرا عن التذمر ومقدمة للثورة.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف