فى صالون أنيس منصور (3 - 3)

كان أنيس منصور يرفض أن يخصص يوماً يلتقى فيه مع تلاميذه وأصدقائه ويكون هذا «صالون أنيس منصور» كما كان صالون العقاد يجمع محبيه صباح كل يوم جمعة، وكان ملتقى للفكر والثقافة، ويكفى أنه ألهم أنيس منصور نفسه كتاباً من أجل كتبه هو «فى صالون العقاد كانت لنا أيام».. يرفض ويقدم لذلك أسباباً وأعذاراه، ومع ذلك فقد كان لأنيس منصور أكثر من صالون وكل صالون منها غير معلن وغير رسمى.. وأنا شاهد على ذلك. كان له صالون فى مكتبه فى الأهرام حيث يلتقى مع مجموعة من الأصدقاء وينطلق هو فى الحديث فى موضوعات متعددة ويحكى كيف كان وهو طالب فى الجامعة يتردد على صالون العقاد وندوة توفيق الحكيم وفى رأيه أن فكرة الصالون تجعلك تجلس مع الكاتب والمفكر الذى تحبه وتسمع إليه مباشرة وتسأله ويجيب عنك والكاتب فى النهاية هو المستفيد من هذه المناقشات.
ويقول حين ألتقى مع قراء أسألهم عمن يشغلهم لأعرف اتجاهات القراء مادامت وزارة الثقافة لاتجرى استطلاعات رأى للتعرف على اتجاهات القراء حول الكتب والمؤلفين وأوليات القراءة عندهم والموضوعات التى تحظى باهتمام أكبر من غيرها.. والمشكلة أننى ملتزم بالكتابة فى أكثر من صحيفة ومجلة فى مصر وفى الدول العربية ولولا أننى حريص على تنظيم حياتى لما استطعت أن أقرأ وأكتب من الرابعة حتى العاشرة صباحاً لأجد وقتاً بعد ذلك للذهاب إلى مكتبى ولحضور لقاءات واجتماعات وندوات ومناسبات اجتماعية، وإلى جانب ذلك فأنا أقرأ 17 جريدة ومجلة يومياً وحدى بدون سكرتارية، ولولا هذا التنظيم لما استطعت كتابة 40 كتاباً فى سنة واحدة.. ولذلك أرى أننى لاأستطيع أن أجد الوقت لكى أواظب على حضور صالون فى لقاء أسبوعى أو حتى كل أسبوعين لأنى فى سفر دائم، وأترك اللقاءات بدون التزام بموعد دورى ولى لقاءات كثيرة غير منظمة وغير دورية تدور فيها حوارات ومناقشات وأستفيد منها كثيراً.
***
كان دائما يتذكر صالون العقاد، ويعترف بأنه تأثر كثيراً به وبأنه يعتبر العقاد أحد أساتذته الذين أثروا فى تكوينه الفكرى مع الدكتور عبد الرحمن بدوى، وبقول: أنا دخلت فى جامعتين فى وقت واحد جامعة القاهرة، وجامعة العقاد، وكنا نشعر بمتعة لايجدها شباب هذا الجيل، كما لايج شباب الجيل الحالى ماكنا نجده من رعاية الكبار واهتمامهم بنا، فقد اتيحت لى الفرصة فى شبابى المبكر لأكتب «اليوميات» على الصفحة الأخيرة من «أخبار اليوم» التى كان يكتب فيها العقاد وسلامة موسى والتابعى وغيرهم من الكبار.. الجيل الجديد من الكتاب لديه مشكلة أنه لايجد الرعاية من جيل الكبار مع أنه يحتاج إليها بشدة ليجد من يرشده ويوجهه ويفتح له الباب ليجد الفرصة.. فقد كنا نسأل العقاد ويجيب فنتعلم، كذلك كان طه حسين يفتح لنا بابه ونذهب إليه لنستمع ونستمتع بحديثه ويعلمه وتوجيهاته.
وكان يقول دائما: أنا حريص على أن أكتب كتابة سهلة حتى لايتعب القارىء للوصول إلى الفكرة التى أتحدث عنها، أنا حريص جا على أن أكتب ماهو سهل وما هو واضح، وأنا من الكتاب الذين يعيدون ويزيدون فى عرض الفكرة الواحدة، وأرى أنه لابد من تكررها، والكاتب القريب من نفسه هو الذى يكرر ويعيد مايكتبه.
وفى مرة قال: تصلنى خطابات ومكالمات تليفونية بعضها فيه شتائم، وبعضها فيه مدح، وأستفيد منها جداً، وأحياناً أرد عليها، وأحياناً أكتفى بقراءتها، وأحياناً أشير إليها فى مقالاتى، وبعض القراء شديد الحساسية لما يقرأه ويطرح مالا يخطر على بالى.. فكل ماسجله أفلاطون لأستاذه سقراط هو محاورات لأن سقراط كان يؤمن بأن الحوار يولد المعانى والأفكار الموجودة عند الناس والمفكر هو الذى يكشف عنها.
وفى مرة أخرى قال: إن الفكر العربى محتاج إلى التفاعل مع الأفكار التى تمتلىء بها الساحة العالمية. نحن لا نستطيع أن نحرم الفكر العربى من التأثر والتأثير فى الفكر العالمى، ونحن نعيش فى مرحلة يصعب أن نوقف فيها السيل المتدفق من المعلومات، ولم تعد هناك فواصل أو حواجز تمتع اللقاء والتفاعل ولايمتلك أى سلطة أن توفق تدفق المعلومات والتعرف على مايدور فى أنحاء العالم، وكل مانستطيعه هو أن نفسر هذه المعلومات وتثير الوعى النقدى لدى القارىء ليفرق بين المفيد والضار، وبين الصدق والكذب..
وقال فى مناسبة أخرى:إن صاحب السلطة يحتاج إلى أن يكون إلى جانبه مفكر. الإسكندر الأكبر كان إلى جانبه أرسطو وهو فيلسوف مؤسس لنظريه ومؤسس لنظريه فى المنطق.. وهكذا لن تجد حاكما كبيراً فى التاريخ إلا وتجد إلى جانبه مفكر كبير.. السياسة بدون الفكر والثقافة تصبح تصرفات عشوائية، بذلك نجد أفلاطون وهو يضع أسس الجمهورية النموذجية يرى أن الفيلسوف لابد أن يكون هو الحاكم للمدينة الفاضلة فهو الذى يجمع بين قوة الفكر وسلامة المنطق والقدرة على تنفيذ هذا الفكر.
***
وفى مكتبه فى «الأهرام» سئل عن الزى المناسب للمرأة فى رأيه فقال: الفضيلة لاعلاقة لها بالزى بالنسبة للمرأة، والأفضل أن نركز على الفضيلة والتربية يعنى نهتم بالجوهر أكثر من المظهر.
وسئل لماذا لم يظهر فيلسوف عربى فى العصر الحديث فقال: إن ظهور الفيلسوف له مقدمات وظروف إعداده، والفيلسوف هو الذى يستطيع أن يقدم حلولا مقنعة لمجموعة من المشاكل والأسئلة عن الدين والخلق والكون والخلود وطبيعة النفس البشرية، ويقدم تفسيراً جديداً للأسئلة الوجودية الكبرى.. ونحن لدينا «مفكرون» وليس لدينا فلاسفة بالمعنى الدقيق لكلمة فيلسوف من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو أو حتى مثل جان جاك روسو أو برجون وبكال أو مثل الفيلسوف الألمانى كانط أو الفيلسوف الفرنسى ديكارت أو مثل جان بول سارتر أو البيركامى أو كير كجارد.. وغيرهم وفى الغرب فلاسفة كثيرون فى كل العصور وكذلك فى العالم العربى فلاسفة فى العصر العباسى مثلاً، ولكن لم يظهر فلاسفة عرب فى العصر الحديث، ربما لأن هناك من يفرض القيود على حرية الفكر ولكن مع ذلك عندنا طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ليست لهم فلسفة متكاملة ولكن لهم نظرات فلسفية، وطه حسين وقال عن عبد الرحمن بدوى إنه أول فيلسوف مصرى بعد رسالته للدكتوراه عن الزمان الوجودى وأتى فيها بجديد فى الفكر الفلسفى وقام وحده بتأليف فلسفية، وعندنا الدكتور زكى نجيب محمود وهو صاحب أفكار فلسفية عن الفلسفة الوضعية وصاحب نظرات فلسفية ولكنه ليس صاحب مذهب فلسفى وبالتالى ليس فيلسوفاً.
***
وسئل عن رأيه فى السياسة وتحولات السياسيين فقال: السياسة قائمة على المصالح، ولا يوجد حب أو كره فى السياسة، كذلك لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة ولكن مصالح دائمة، فإذا حكمت علينا مصالحنا أن نتقابل ونتفاوض لتأخذ أرضنا فإن الحكمة أن نتقابل ونتفاوض ونأخذ أرضنا ولولا ذلك لظلت أرضنا محتلة مثل الجولان والضفة.
وعن علاقتنا بأمريكا قال: أمريكا هى أقوى وأغنى دولة، وهى التى تقود النظام العالمى، ونحن لانستطيع أن تحاربها أو تعاديها ولكن يمكن أن نتعامل بالقدر الذى لايتعارض مع مصالحنا أو مصالحها، وبيننا وبينها نقط اتفاق ومجالات للتعاون فلماذا لانستفيد بذلك.
وكان أنيس منصور متأثرا بفلسفة جان بول سارتر الوجودية وأول من كتب عن الوجودية وفلاسفتها وحتى عنوان العمود اليومى الذى كان يكتبه فى الأهرام «مواقف» وجمعها فى عدة مجلدات.. وأن كان قد ابتعد بعد ذلك عن الوجودية وانشغل بالسياسة خصوصاً بعد أن أصبح أقرب الصحفيين والكتاب إلى الرئيس أنور السادات.. والحديث عن أنيس منصور لاينتهى!

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف