فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 25 )
من الذى أحرق القاهرة يوم 26 يناير 1952؟
المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى يقول إن أول مسئول عن حريق القاهرة هو الاحتلال البريطانى، لأن مجرد وجوده كان مدعاة للسخط، والفظائع التى كان يرتكبها الجنود الانجليز، وخاصة مجزرة الإسماعيلية ضد قوات البوليس المصرى فى اليوم السابق، يوم 25 يناير جعلت المشاعر الشعبية تصل إلى درجة الغليان، وفقدان الوعى، واتجه الشعور بالغضب إلى الأجانب عامة، والمسئول الثانى – كما يقول – هو الحكومة بإهمالها القيام بأول واجباتها وهو المحافظة على الأمن والنظام، فلم تبادر حكومة الوفد إلى وقف الفوضى بالحزم ظنا منها أنها بذلك تتجاوب مع المشاعر الشعبية.
رأى الرافعى بصدق فى اللحظات الأولى للمظاهرات، ولكن المظاهرات تحولت إلى إشعال الحرائق، ولا ننسى أن وزير الداخلية كان أول من طلب تدخل الجيش بعد أن رأى عساكر وضباط البوليس يتعاطفون مع المتظاهرين، ولكن عبد الرحمن الرافعى يضع فى أدلة الاتهام للحكومة رفضها لطلب مدير الأمن العام بعدم استئناف الدراسة فى المدارس والكليات فى هذا اليوم التالى، والاعتداء الوحشى لقوات الاحتلال على البوليس المصرى فى الإسماعيلية. كما لم تتحرك الحكومة عندما خرج جنود بلوكات النظام من ثكناتهم فى مظاهرات تجوب الشوارع، ولم تتخذ الحكومة موقفا حاسما لمنع الذين كانوا يشعلون النيران. ولم ينزل أحد من كبار المسئولين إلى الشوارع ليراقب الحالة بنفسه ويشرف على إعادة الانضباط إلى جنود البوليس، كما أن تردد الحكومة ضيع وقتاً ثميناً حين طلبت تدخل الجيش، ثم عادت وطلبت عدم تدخل الجيش، ثم عادت مرة أخرى وطلبت تدخل الجيش بإلحاح، بعد أن تفاقم الأمر وسيطر الغوغاء على الشوارع وانتشرت الحرائق. ومعروف أن وزير الداخلية ظل فى منزله حتى الساعة الحادية عشرة صباحاً، بينما بدأت المظاهرات فى السابعة صباحاً. وحين ذهب إلى مكتبه كان مشغولاً بتوقيع عقد شراء عمارة رقم 23 بشارع عبد الخالق ثروت من صاحبها «جورج عريضة» وثمنها 80 ألف جنيه، وتم توثيق العقد فى الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر بحضور مدير الشهر العقارى الذى انتقل إلى مكتب الوزير وأجرى توثيق العقد. ولم يتحرك رجال البوليس ربما لإحساسهم بالسخط لما تعرض له زملاؤهم فى الإسماعيلية، وقد بلغ عدد ضحايا الشرطة فى الإسماعيلية 60 فرداً.
ويشير عبد الرحمن الرافعى إلى ما قاله البعض من الانجليز هم الذين دبروا هذا الحريق وما قاله البعض الآخر من أن فاروق هو الذى دبر الحريق ليتخلص من وزارة الوفد دون أن يواجه بالسخط الشعبى. ويقول الرافعى:»كنت أود أن يسفر البحث والاستقراء عن تدبير الانجليز أو فاروق حريق القاهرة، ولقد مضت عدة سنوات وأنا أعاود البحث لعلى أصل إلى بيانات، أو مجرد قرائن، تثبت هذا التدبير، ولكن تبين لى – مع شديد الأسف – أن حريق القاهرة كان عملا محليا قامت به العناصر الرديئة من الشعب، وبعد ثورة 23 يوليو تكشفت بعض الحقائق التى كانت محجوبة عن الأنظار، ولكن لم تظهر وثيقة أو رواية أو شهادة عيان تؤكد أن التدبير كان من الانجليز أو فاروق».
ويضيف عبد الرحمن الرافعى شهادته هو، فيقول إنه شهد الحريق بعينيه ورأى الغوغاء يشعلون النار جزافا فى المحال التجارية دون مبالاة دون أن يبذل البوليس مجهودا لمنع الحرائق، ورأى الجماهير محتشدة على الأرصفة وقت اشتعال النيران مبتهجة تنظر بعين الغضب إلى رجال المطافئ وهم ذاهبون بسياراتهم لإطفاء الحرائق، ولم ينجهم من الغضب الشعبى إلا إيماءات منهم بأنهم لن يعملوا على إخمادها. ويقول إنه لاحظ أن هذه الإيماءات كانت تقابل من الجمهور بالهتاف والتصفيق، ويضيف أنه تحقق من أن بعض المتظاهرين كانوا يقطعون خراطيم المياه ليمنعوا رجال المطافئ من القيام بعملهم، وقد تم العثور على كثير من الأشياء المنهوبة فى بيوت العناصر التى شاركت فى إشعال النيران.
***
أما عن مسئولية فاروق فيرى عبد الرحمن الرافعى أنه لا يعتقد أن لفاروق يدا فى تدبير الحريق، إلا أن مساعدته على ذلك كانت بطريقة غير مباشرة، فهو شريك فى المسئولية بسبب مأدبة الغداء التى دعا إليها معظم ضباط الجيش والبوليس يوم الحريق ابتهاجا بميلاد ولى العهد، وكان واجبا عليه أن يلغى هذه المأدبة بعد أن بدأت نذر الشر فى الصباح الباكر، بل كان واجبا عليه أن يلغيها بعد مذبحة الإسماعيلية فى اليوم السابق ليبادل الشعب شعوره بالحداد على شهداء الشرطة، ولم يكن لائقا أن تتم هذه المأدبة ودماء هؤلاء الشهداء لم تجف بعد.
لقد كان حريق القاهرة من أسباب التعجيل بقيام ثورة يوليو، وفى ذلك قال جمال عبد الناصر:«حرقت القاهرة وحرق معها كفاحنا فى القنال، ومن ذلك اليوم – 26 يناير 1952 – بدأنا نفقد الصبر، وبدأنا نفكر فى العمل الإيجابى، وآثرنا أن نصرع الفساد قبل أن يصرعنا، وأن نحطم الطغيان قبل أن يحطمنا».. عبد الناصر كان يشير إلى (الطغيان) و(الفساد) على أنهما المسئولان عن حريق القاهرة، وعن ضياع نتائج التضحيات فى الكفاح ضد الاحتلال الذى ضحى فيه الشباب المصرى بأرواحهم من أجل تحرير بلادهم.
***
ومرتضى المراغى من موقعه كوزير للداخلية كانت مهمته جمع الدلائل والأدلة حول حريق القاهرة، فهو يؤكد – بيقين – أن فاروق كان وراء هذا الحريق، ويستدل على ذلك باشتراك ضابط الجيش (محمد على عبد الخالق) ومعه جنود السوارى اشتراكا علنيا واضحا فى المظاهرات، ولم يكن معقولا أن يجرؤ ضابط وجنود على السير فى مظاهرات دون أن يكون لديهم ضوء أخضر سمح لهم بذلك، ويقول: لقد تم تصوير هذا الضابط وهو محمول على الأعناق فى المظاهرات، وبعد أن قبضنا – يقصد الداخلية – عليه وعلى جنود السوارى وأحلناهم إلى النيابة مع الصور تدخل الفريق محمد حيدر – قائد الجيش – وطلب تسليم هؤلاء العسكريين لتتولى سلطات الجيش محاكمتهم عسكريا بمعرفتها، وتم تسليمهم بالفعل، ولم يعاقب أحد منهم.. يتساءل مرتضى المراغى: من الذى كان يمكن أن يحميهم من ذلك الوقت غير القصر؟
ويروى مرتضى المراغى واقعة خطيرة. يقول إن السلطانة ملك – زوجة السلطان حسين كامل السابقة التى كان فاروق يعتبرها بمثابة أمه ويستشيرها فى الكثير من الأمور – قالت لفاروق تعليقا على اعتداء قوات الاحتلال على رجال البوليس المصرى: إن هذا حادث خطير يعرض البلد إلى منزلق خطير، فقال لها فاروق: ولكن لابد من إيصال البلد إلى أخطر منزلق حتى يمكن إصلاحه بعد ذلك.. يبدو أن نظرية الفوضى الخلاقة لدى الطغاة قديمة!، وهذا الحديث يدل على أن فاروق كان مقتنعا بسياسة دفع الأمور إلى حافة الهاوية.
ويروى مرتضى المراغى واقعة أخرى مثيرة، وهى أن رئيس الديوان الملكى «حافظ عفيفى» قال له: «أنت تاعب نفسك فى موضوع حريق القاهرة ليه؟ دا موضوع انتهى وفات، والبلد أمامه مسائل كثيرة أخرى تستحق الاهتمام أكثر من حريق القاهرة.. وختم رئيس الديوان حديثه بما يشبه الأمر بقوله: إننى أرجو أن تغلق ملف حريق القاهرة. وحين سأله مرتضى المراغى. هل هذا رأى شخصى أو رأى جلالة الملك، قال حافظ عفيفى بابتسامة لا تغيب عن فطنة من يحدثه:»لا تنس أننى رئيس ديوانه!
ولماذا دبر فاروق حريق القاهرة؟.. السبب – فى رأى مرتضى المراغى – هو التخلص من حكومة الوفد الذى كان خصما عنيدا لفاروق. ولكن مرتضى المراغى له تعليق يستحق النظر، يقول: لماذا لم تحاول ثورة يوليو التحقيق فى حريق القاهرة، على الرغم من أنها فتحت ملفات كثيرة؟
***
المؤرخ الكبير الراحل الدكتور محمد أنيس فى كتابه (حريق القاهرة على ضوء وثائق تنشر لأول مرة) الذى أصدرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1972 يصل من بحثه إلى أن المخابرات البريطانية هى التى دبرت حريق 26 يناير، ليكون ذريعة لإحداث ثورة مضادة وإخماد الحركة الوطنية، ودليله على ذلك أن قائد القوات البريطانية فى مصر حذر كبار الانجليز من أصدقائه ونصحهم بمغادرة القاهرة قبل 26 يناير ببضعة أيام. ويضيف الدكتور أنيس: ليس معقولا ألا تكون للاحتلال البريطانى فى مصر عام 1952 عيون وعملاء داخل القصر، وداخل الأحزاب، وهؤلاء كانوا يقومون بدور مرسوم لهم ربما دون أن يدركوا أبعاد المؤامرة البريطانية ضد الحركة الوطنية، وهناك شواهد مثيرة: تعيين حافظ عفيفى رئيسا للديوان الملكى، وتعيين عبد الفتاح عمرو فى ديوان الملك كان معناه إيجاد صلة بين القصر والسفارة البريطانية. أما أحمد حسين وحزبه وقد أشارت إليهما أصابع الاتهام، فإن الدكتور أنيس يقطع بأن ليس لهما يد فى المخطط لحرق القاهرة، وإن كان بعض أعضاء هذا الحزب (الحزب الاشتراكى) كانوا يقودون الناس فى الشوارع وقبض على كثير منهم، ولكن هؤلاء – كما يقول مرتضى المراغى – اشتركوا دون أن يدركوا الأبعاد الحقيقية للمؤامرة.
يختتم الدكتور أنيس دراسته بقوله: هى المخابرات البريطانية فى مصر أولاً وقبل كل شئ، وما عدا ذلك من أطراف فهى عوامل مساعدة، بما فى ذلك القلم السياسى فى وزارة الداخلية، وهذا ما انتهى إليه رأيى أتحمله أمام التاريخ وأمام أمتى.. وأخيرا فإن درس حريق القاهرة إنه يتعذر على أى شعب أن يخوض معركته الوطنية ضد احتلال أجنبى ما لم تكن جبهته الداخلية متماسكة مطهرة من عناصر التآمر والعمالة!
هذا هو الدرس.