عالم أنيس منصور (2 - 3)

أنيس منصور كاتب موسوعى.. كتب فى الفلسفة، وفى الأدب، وفى التاريخ، وفى الأديان، وفى السياسة.. كتب عن تولستوى وهيدجر وعشرات الفلاسفة، كما كتب عن العقاد والمتنبى وطه حسين وعشرات الأدباء.. وكتب عن نظرية النسبية والكيمياء الحيوية والهندسة الوراثية وعلوم الفضاء.. وكتب عن الأساطير والحكايات عن الذين هبطوا من السماء وبنوا الأهرام فى مصر، وعن الذين عادوا إلى السماء.. عشرات الكتب وآلاف المقالات.. وكتب عن نفسه أيضًا.
تاريخ طويل.. وعالم ملئ بالفكر.. وأكثر من ثمانين كتابًا منها أكثر من 25 كتابًا فى الدراسات مثل الوجودية، والخبز والفيلات، وشىء من الفكر، ومنها مجموعات قصصية مثل: بقايا كل شىء، وعزيزى فلان، ومنها كتب الرحلات مثل: حول العالم فى 200 يوم، واليمن ذلك المجهول، وبلاد الله خلق الله، وأطيب تحياتى من موسكو، وأعجب الرحلات فى التاريخ، وغريب فى بلاد غريبة، ولعنة الفراعنة، وأوراق على شجر.
ومنها مسرحيات مثل: الأحياء المجاورة، وحلمك يا شيخ علام، ومين قتل مين، وجمعية كل واشكر، وكلام لك يا جارة، ومنها كتب مترجمة مثل روموس العظيم، وهبط الملاك من بابل، والشهاب للكاتب المسرحى الألمانى ديرنمات، وفوق الكهف.. لتنسى وليامز، وبعد السقوط لآرثر ميلر.. وإلخ.
***
تجاوز الثمانين وظل يتمتع بشباب الفكر، محبا للحياة والسفر.. باحثا عن كل جديد، قارئا نهما بخمس لغات، له محبون كثيرون ومعجبات أيضًا.. وله خصوم كثيرون، عاش حياته بالطول والعرض.. لا تستطيع أن تحصى بالضبط عدد كتبه ومقالاته ورحلاته.. النبش فى ذاكرته شىء سهل لأنه يتمتع بذاكرة قوية حاضرة حتى آخر العمر، ولم تظهر عليه علامات الكبر إلا فى أيامه الأخيرة حين تغلب عليه المرض، ومع ذلك كان يقاوم وكنت أراه فى الأهرام يحرص على أن يحضر معنا الاجتماعات يشارك فيها ويحاور بصوته الوهن وذهنه الحاضر، عاش حياته كلها نجمًا متألقًا، تختلف معه أو تتفق ولكنه لا بد أن تشعر بالاحترام لهذا العقل ولهذا الجهد الخارق الذى بذله خلال سنوات حياته كانت ساعات نومه قليلة جدًا وساعات عمله كثيرة جدًا إلى أن ودع الدنيا فى يوم 21 أكتوبر سنة 2011.
***
اما خزانة ذكرياته فهى الكنز الذى كان يغترف منه، كتب كثيرا عن المنصورة وكان يعتبر محافظة الدقهلية هى المورد الرئيسى للعبقرية المصرية، فهى التى أنجبت عشرات من ألمع نجوم الصحافة والأدب والسياسة. حين سألته: لماذا الدقهلية؟، قال لى: هى أكثر محافظات مصر حضارة وأثرًا فى الثقافة المصرية والعربية، ومن أبنائها على مبارك أبو التعليم فى مصر، ولطفى السيد أبو الفلسفة والفكر، والشيخ متولى الشعراوى شيخ الدعاة، والشيخ جاد الحق شيخ الأزهر العظيم، وسيدة الغناء أم كلثوم، وسيد الملحنين رياض السنباطى، وسيدة الشاشة فاتن حمامة، وسيدة المسرح سهير البابلى، وأسياد الكوميديا عادل إمام ومحمد صبحى وأمين الهنيدى ويونس شلبى، وسادة الشعراء كامل الشناوى ومأمون الشناوى وصالح جودت وعلى محمود طه وإبراهيم ناجى، والهمشرى، وحيرم الغمراوى ومئات غيرهم.. هل تريد المزيد.. منها د. محمد حسين هيكل، والأدباء أحمد حسن الزيات والدكتور رشاد رشدى، ونعمان عاشور، وثناء البيسى، ومنها أول فيلسوف مصرى د. عبد الرحمن بدوى، ورائد الصحافة الحديثة محمد التابعى، والنحات العظيم محمود مختار، ومنها والدة أعظم المفكرين عباس محمود العقاد ولو أن العقاد والده من أسوان وقد ولد فيها لذلك يعتبر من أبنائها.. هل تريد المزيد.. خذ عندك من رؤساء تحرير الصحف عبد العزيز خميس، ومحمود التهامى، ومحفوظ الأنصارى، ومصطفى شردى، ووحيد غازى، وحسن شاه، ومن السياسيين إبراهيم عبدالهادى رئيس الوزراء وكان ابن عمة أمى، وزعيم المعارضة الراحل إبراهيم شكرى، وعالم الفضاء فاروق الباز وشقيقه أسامة الباز، وفى الرياضة ساحر الكرة محمود الخطيب، ومن رؤساء التليفزيون حسين عنان، وتماضر توفيق، وهمت مصطفى.. هل تريد المزيد.. هى محافظة أنجبت المشاهير فى كل مجال وأعطت لمصر أعظم رجالها ونسائها.. وحين يتحدث عن الدقهلية لا يتوقف.
***
قال عن طفولته: بدأت فى كُتّاب القرية وأتممت حفظ القرآن وأنا فى التاسعة من عمرى، وبعد الحصص كانت زوجة «سيدنا» تكلفنا بمساعدتها شغل البيت (كنس الأرض وغسل الأطباق وإطعام الدجاج ونشر الغسيل) ولم يكن أحد منا يستطيع أن يشكو حين يضربه سيدنا بالعصا، أو تضربه زوجة سيدنا بالقلم على وجهه مع كلمات مناسبة عن أمه وأبيه، وإذا شكى أحدنا لوالده لا يسمع إلا نفس الرد (كل من يريد أن يتعلم لا بد أن يتحمل ولا يشكو).. أما أين كنا نلعب ونحن صغار، ففى الحارة، وأذكر أننا تسابقنا يوما من منا يأكل كوم برسيم أكبر، أو أن يركب كل منا عصا طويلة ويعتبرها حصانا ويجرى بها ويسبق زملاءه. ومن ذكريات طفولتى أننا كنا أربع أطفال نجرى فى الليل وسقطنا فى الترعة وأوشكنا أن نغرق لولا أن بعث الله لنا من ينقذنا، ومنذ ذلك اليوم لم أنزل بحرا ولا فكرت فى أن أتعلم السباحةـ ولازلت أذكر لعبة «عريس وعروسة» ويقوم الأطفال بعمل زفة لنا ونحن نضحك بعد أن تنتهى اللعبة ويضحك أهلنا أيضًا.
***
وقال أنيس منصور: أكبر خطأ ترتكبه السلطة هى أن تمنع الفكر أو الفن أو الرأى، لأن ذلك يسىء إلى السلطة، ويشجع الناس على نشر ما هو ممنوع، وأذكر أن أعضاء مجلس الشعب ثاروا يوما على إعلان فى التليفزيون عن محل للأثاث وفيه سيدة تقول لزوجها: محمود.. إيه ده يا محمود؟ وقالوا: إنه يعلم البنات الميوعة، وقال رئيس المجلس د. رفعت المحجوب: وماذا ترى يا أخى؟ فصاح العضو: أن يمنع هذا الإعلان، وفعلا منع التليفزيون إذاعة الإعلان، فكانت النتيجة أن الإعلان تحول إلى أغنية بيعت منها ملايين الشرائط، وعاد التليفزيون بعد فترة إلى إذاعة الإعلان.
وقال: هناك فرق كبير بين الأطفال فى زماننا والأطفال هذه الأيام، لم يعد الطفل يتلقى الأوامر من والديه أو من المدرس، ولكن لا بد من الحوار إلى أن يقتنع الطفل بأن يفعل كذا أو لا يفعل كذا، الطفل اليوم فى سنواته الأولى يريد التليفزيون والفيديو والكمبيوتر ويعرف مواعيد الأفلام المتحركة، ويحصل على لعب مختلفة تماما عما كان لدينا.. الأطفال اليوم أصبحوا قوة قاهرة.. وصناعة لعب الأطفال هى أعظم صناعة رائجة ولكنها مع الأسف تغرس فى الطفل العدوان لأن معظمها ألعاب حرب.. مدافع وصواريخ ودبابات وطائرات وعساكر جاهزة للمعارك التى يريدها الطفل.. بينما نحن كنا نلعب ألعابا بسيطة ساذجة لا تكلف الأهل شيئا.
***
وقال لى مرة: سألت توفيق الحكيم عن الفرق بين جيله وجيل ابنه إسماعيل، فقال: جيلى كانوا يسألونه من الذى عبر البحر ولم يبتل والإجابة «العجل فى بطن أمه»، أما جيل إسماعيل فيجيب: الطائرة! الجيل الجديد يعرف الكثير عن مركبات الفضاء والصواريخ والقنبلة الذرية ونحن حتى بعد أن وصلنا إلى مرحلة الشباب المبكر لم نكن نعرف شيئا عن ذلك.. إن ملايين الأطفال يحكمون العالم اليوم بخيالهم ويحكمون أهلهم.. والأهل يتهاونون وأحيانًا يهملون فى تربية أطفالهم ويتركونهم ليشبوا بدون تقويم، والطفل اليوم هو الشاب غدًا وهو الذى سيتحمل مسئولية فى البيت وفى البلد بعد غد.. وليس من حق الآباء أن يشكو من انفلات الأبناء.. لأنهم نتاج تربيتهم أو عدم تربيتهم.
وجرنا الحديث عن الأدب الساخر فى مصر فكان رأيه أنه لا يوجد أدب ساخر ولا كتابات ساخرة إلا قليلا واستثنى أحمد رجب فى «نصف كلمة» لأنها ساخرة وعميقة وموجزة، أما معظم الكتابات التى يسمونها ساخرة فهى أقرب إلى الشتائم، وفيها تجاوزات كثيرة، أين ذلك من مبدعى الكتابة الساخرة وأدب السخرية مثل مصطفى أمين، وكامل الشناوى، وسعيد عبده، وجليل البندراوى، ومحمد عفيفى وغيرهم من الرواد ولآخر عباقرة الأدب الساخر كان محمود السعدنى، وفى الغرب نجد برناردشو، وأوسكار وايلر، وسويفت، وبوكوالد، وغيرهم من المشاهير.. أتمنى أن يتعلم الساخرون من هؤلاء الساخرين المحترمين.
والحقيقة فى رأيى أن أنيس منصور أستاذ فى الأدب الجاد وفى الأدب الساخر أيضًا فى كتاباته ومسرحياته.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف