أين مؤسسات التعليم و الدعوة

في فترة من الفترات كان الاهتمام شديدا بمواجهة فكر الإرهاب وأنصاره في المدارس والجامعات‏,‏ ثم توقف هذا الاهتمام أخيرا‏,‏ فعاد أصحابه من الكمون الي الظهور دون أن يجدوا من يواجههم‏.‏


وفي فترة من الفترات كان الأزهر وعلماؤه في معركة مع الفكر الديني المنحرف‏,‏ ولم يستطع الارهابيون الصمود‏,‏ إذ مازال الأزهر ـ كالعهد به ـ قلعة الدفاع عن الاعتدال والإسلام الصحيح‏,‏ ولكن الأزهر وعلماءه استسلموا لحالة من الاسترخاء ظنا أن المعركة انتهت‏.‏


والنتيجة أن الجهود المبذولة الآن لمواجهة فكر التطرف والتشدد أقل مما يجب‏,‏ ويبدو أن هناك استسلاما لفكرة أن المعركة مع الإرهاب مسئولية أجهزة الأمن وحدها‏,‏ وهذا التصور خاطئ تماما لأن دور الأمن يبدأ حين تفشل أجهزة ومؤسسات التربية والثقافة والدعوة والإعلام‏.‏ وإلقاء التبعة بالكامل علي أجهزة الأمن يعني تنصل بقية الأجهزة المسئولة عن التربية الدينية عن مسئوليتها‏.‏


ولقد مضي علي تطبيق قانون تنظيم الأزهر أكثر من أربعين عاما‏,‏ وهناك شبه إجماع علي ان مستوي خريجي كلياته أصبح أقل مما كان مأمولا‏,‏ وكثير من علماء الأزهر يرون ضرورة اعادة النظر في هذا القانون ولائحته التنفيذية لمسايرة التطور والتحديث‏,‏ ويرون ضرورة إعادة النظر في مناهج الكليات التي أدخلت علي الأزهر كجامعة إسلامية‏,‏ فقد كان المقصود تخريج أطباء ومهندسين ومحاسبين واخصائيين في مهن مختلفة يجمعون بين العلوم المدنية والعلوم الدينية كي لا تكون الدعوة الاسلامية مقصورة علي علماء الدين وحدهم وعلي المنابر وحدها‏,‏ وتكون عملا يوميا بالسلوك والحوار والقدوة والتعامل‏,‏ وبذلك يكون الطبيب والمهندس والصيدلي خريج جامعة الازهر نموذجا للمسلم المعاصر‏,‏ وداعية يخاطب الناس بأسلوب عصري حيث يذهب‏,‏ لكن ذلك لم يتحقق بالصورة المأمولة‏.‏


من ناحية اخري حدثت تنازلات كثيرة في مواصفات طالب الأزهر‏,‏ فقد كان حفظ القرآن الكريم بالكامل شرطا لايمكن التهاون فيه للقبول‏,‏ وتم التنازل تدريجيا عن هذا الشرط بحجة التيسير‏,‏ ولم تعد امتحانات حفظ القرآن بالدقة والتشدد كما كان في الماضي‏,‏ وأضيف الي ذلك أن المعاهد الأزهرية تقبل أصحاب المجاميع التي تقل عما تقبله مدارس وزارة التعليم‏,‏ وهذا يعني أن مستواهم أقل‏,‏وكان المفروض العكس‏,‏ وقد انتشرت المعاهد والكليات الأزهرية وتوسعت بصورة يصعب معها توفير هيئات التدريس بالكفاءة الواجبة‏,‏ وبذلك انتقلت مشكلة تغليب الكم علي الكيف من التعليم العام الي التعليم الأزهري‏,‏ مع أن التعليم الأزهري ليس ضمن التعليم الإلزامي مثل التعليم العام‏,‏ وليس مضطرا لقبول كل من يبلغ سنا معينة‏,‏ ومهمة التعليم الأزهري مختلفة عن التعليم العام‏,‏ فمهمته هي التعليم الديني المتخصص والمتعمق‏,‏ وهذا النوع من التعليم يجب أن تكون الأولوية فيه للكيف وليس للكم‏,‏ ولا يكون التوسع فيه لمجرد الرغبة في نشر التعليم الديني قبل أن تتكامل مقوماته واحتياجاته من هيئات التدريس التي تتميز بالتخصص والكفاءة‏.‏


وقد نتفهم أن تكون كفاءة خريج الكليات الجامعية أقل من مثيله في الدول الاخري بعد أن أصبحت جامعاتنا في التقييم العالمي خارج أفضل‏500‏ جامعة في العالم‏,‏ ولكن لايمكن أن نقبل أن يكون خريج الأزهر الذي يعمل في مجالات الدعوة والتوجيه الديني والوعظ‏,‏ ويتصدي للافتاء أقل كفاءة مما يجب لهذه الرسالة‏,‏ فإن القبول بنصف كفاءة في أمور الدين له عواقب خطيرة علي أمور الدين والدنيا‏.‏


ومع كثرة الحديث عن تجديد الخطاب الديني‏,‏ أعتقد أن ذلك يستلزم أولا تجديد المؤسسة الدينية المتخصصة في إعداد الدعاة الذين يتولون الخطاب الديني‏,‏ والبداية بتجديد أساليب ومناهج الدراسة‏,‏ وليس ذلك جديدا‏,‏ فقد سبقتنا الدول الأوروبية وأعادت بناء كليات اللاهوت المتخصصة في إعداد رجال الدين‏,‏ وجعلت مهمتها تخريج رجل دين قادر علي التعامل مع معطيات العصر ويتحدث بلغة العصر‏,‏ ويجيد اللغات الأجنبية‏,‏ ويلم بالعلوم الحديثة وبخاصة علوم النفس والاجتماع والادارة لأن رجل الدين له مكانة متقدمة بين قادة الرأي العام‏,‏ ولابد أن تكون لديه المهارات اللازمة لمن يتصدي لبناء وقيادة الرأي العام وادارة الحوارات‏,‏ وباختصار فإن حالة الدعوة والتربية الدينية الآن تحتاج الي وقفة‏,‏ ومراجعة‏,‏ وبداية جديدة لتجديد الفكر الديني وتجديد اساليب الدعوة والتربية الدينية‏,‏ وإذا نجحنا في ذلك فلن يكون العبء ثقيلا علي أجهزة الأمن وعلي المجتمع كما هو الآن‏.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف