فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 22 )
بإجماع الخبراء العسكريين كانت حملة فلسطين عام 1948 وما شابها من قرارات وتصرفات فاروق سلسلة من الخروج على مبادئ الحرب. أصدر فاروق الأمر بدخول الجيش المصرى هذه الحرب دون تحديد الهدف الاستراتيجى أو الأهداف التكتيكية للقوات، وكان يعلم أن الجيش يعانى من نقص المعدات والأسلحة والذخائر، وكان يضغط على قيادة القوات لكى تتقدم لاحتلال مناطق شاسعة أكبر من حجم القوات المتيسرة للقيادة، بالإضافة إلى أخطاء أخرى عديدة، وكانت النتيجة اضطرار مصر والعرب لتوقيع هدنة دائمة مع إسرائيل، وبعد وقف القتال تحركت القوات الإسرائيلية لاحتلال (أم الرشراش) على خليج العقبة، وأعلن وسيط الأمم المتحدة – بعد التحقيق – أن هذا الاحتلال عمل غير مشروع، ولكن إسرائيل حولت أم الرشراش إلى ميناء إيلات وفتحت بذلك لنفسها طريقاً بحرياً على خليج العقبة والبحر الأحمر.. واستمرت توابع نكبة 48 مستمرة إلى يومنا هذا.
من توابع نكبة 48 طرد إسرائيل 70% من الفلسطينيين بالقوة من مساكنهم ومزارعهم واستيلاؤها على أراضيهم فأصبحوا بلا مأوى وتحولوا إلى لاجئين فى الأردن وسوريا ولبنان وفى دول أخرى عديدة، وقامت إسرائيل بضم 2500 ميل مربع إلى الجزء الذى كان مخصصًا بقرار التقسيم الصادر من الأمم المتحدة.. والأكثر من ذلك أن هزيمة 1948 أدت إلى نتيجتين كان لهما تداعيات تاريخية بالغة الخطورة غيّرت من مسار الأحداث فى المنطقة كما يلى:
أولاً: أن هذه الهزيمة زعزعت استقرار العالم العربى – وإلى بدء التحرك للصلح مع إسرائيل على أساس قبولها كدولة والتنازل لها عن الأرض التى اغتصبتها وطردت منها أصحابها.. وأدى الشعور بالهزيمة والظلم إلى سلسلة اغتيالات للقادة والزعماء العرب.. تم اغتيال رياض الصلح رئيس وزراء لبنان فى يوليو 1951 على يد بعض اللاجئين السياسيين لأنه كان يسعى إلى الحصول على تأييد لمشروعه للصلح مع إسرائيل.. وتم اغتيال الملك عبد الله ملك الأردن بعد ثلاثة أيام فى 20 يوليو 1951 وهو يهم بالدخول إلى المسجد الأقصى. ولم يعرف حتى اليوم المحرضون والمنفذون لهذه الجريمة السياسية.. وبدأت القلاقل فى العراق.. وفى سوريا أدت الهزيمة إلى سقوط رئيس الوزراء (جميل مردم) وتفجر الغضب فى صفوف الشعب والجيش. وفى 30 مارس 1949 قام حسنى الزعيم بانقلاب عسكرى وألقى القبض على رئيس الجمهورية (شكرى القوتلى) ورئيس الوزراء وعدد من النواب، وتولى السلطة، وأعلن الأحكام العرفية.. وكان هذا الانقلاب بداية لسلسلة انقلابات أخرى شهدتها سوريا.. وفى مصر كانت هزيمة 48 من أهم أسباب قيام ثورة 23 يوليو كما جاء فى بيانها الأول الذى عبر عن شعور الجيش بالمرارة نتيجة ما حدث فى هذه الحرب من الخيانة والفساد وعدم كفاءة القيادة السياسية للبلاد.
ثانيًا: إن إسرائيل استفادت بعد هذه الحرب - التى أساء القادة العرب إدارتها، وبخاصة فى مصر- فى إقامة علاقات دولية يعد اعتراف الدول بها.. و كانت دول العالم مترددة فى ذلك فيما عدا أمريكا وبريطانيا وروسيا وكان اعترافها بعد دقائق من إعلان قيام إسرائيل. وتم قبول إسرائيل كدولة عضوًا فى الأمم المتحدة على الرغم من عدم تنفيذها لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن.. وكانت إسرائيل قد فشلت قبل ذلك فى الحصول على العضوية فى الأمم المتحدة عندما حاولت ذلك فى نوفمبر 1948 لم تحصل على موافقة معظم دول العالم، وإن كانت قد حصلت -طبعًا – على أصوات الولايات المتحدة، وبعض الدول التابعة لها، بينما امتنعت عن التصويت كل من بريطانيا وفرنسا والصين وبلجيكا وكندا ودول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.. وكان موقف الدول الممتنعة عن التصويت أن إسرائيل ليست لها حدود معترف بها، ولكن زالت هذه الحجة بتوقيع الهدنة الدائمة بين إسرائيل والدول العربية.. ففازت إسرائيل بتأييد فرنسا وبريطانيا والدول التابعة لها فى الكومنولث، وبالإضافة إلى كل ذلك أدت نتائج هزيمة 1948 إلى إصابة الجامعة العربية بالجمود.
مسئولية فاروق – مع القادة العرب – عن هزيمة 48 لم تكن فقط مسئولية عن الهزيمة فى حرب، ولكنها كانت مسئولية عن سلسلة هزائم للعرب تالية. يقول المؤرخ العسكرى الدكتور إبراهيم شكيب إن النتائج العسكرية لهذه الحرب انعكست على كبرياء العرب وثقتهم بأنفسهم وأدت إلى اختلال واضطراب كبير فى أوضاع مصر والبلاد العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وجعل أعدادًا متزايدة من المثقفين والضباط الشبان يعيدون تقدير أوضاع الحياة السياسية والبحث عن جذور الضعف الذى أدى إلى الهزيمة.. وإن كان معظم السياسيين قد ظلوا يكتفون بإلقاء اللوم على الدول الكبرى والأمم المتحدة، فإن البعض من ذوى البصيرة بدأوا يعترفون بأن القيادة السياسية هى المسئولة عن الهزيمة كما هى المسئولة عن الفساد والتخلف اللذين سادا فى البلاد.. وكان ذلك هو المحرك لسلسلة الانقلاب والثورات التى شهدتها مصر والدول العربية.
من الناحية العسكرية يتفق المؤرخون على أن ضباط وجنود الجيش المصرى أدوا بشرف ما طُلب منهم من مهام فى حدود ما وفرته القيادة السياسية من إمكانات قتالية. وكانت القيادة السياسية هى السبب الأول فى فقدان القوات المصرية ما حققته من إنجازات فى المرحلة الأولى من هذه الحرب. ولا يمكن تجاهل أهمية العريضة التى قدمها إلى الملك فاروق 16 من الشخصيات السياسية يوم 16 أكتوبر 1950 عن فساد الحاشية المحيطة بالملك ودورها المشبوه فى صفقات الأسلحة، واعتقاد الناس أن العدالة لن تنال منهم بحكم مراكزهم وحماية فاروق لهم، ومشاركته لهم فى هذه الصفقات المشبوهة. كما ساد الاعتقاد بأن الحكم لم يعد للدستور، وأن النظام النيابى أصبح حبرًا على ورق منذ صدور المراسيم الملكية فى يونية 1950 (بفضل أعضاء ورئيس مجلس الشيوخ) والتى قضت على حرية الرأى وزيفت مجلس الشيوخ – وهو المجلس التشريعى الأعلى – كما زيفت انتخابات مجلس النواب قبل ذلك. وقالت العريضة: (من المحزن أن تردد على الألسن والأقلام داخل البلاد وخارجها أنباء عن هذه المساوئ وغيرها من الشائعات الذائعات التى لا تتفق مع كرامة البلاد حتى أصبحت سمعة الحكم المصرى مضغة فى الأفواه، فأصبحت صحف العالم تصورنا فى صورة شعب مهين، يسام الضيم فيسكت عليه ويساق كما تساق الأنعام، والله يعلم أن الصدور منطوية على غضب تغلى مراجله وما يمسكها إلا بغية من أمل يعتصم به الصابرون).
وتقول هذه العريضة الخطيرة لفاروق: (لقد كان حقًأ على حكومتكم أن تصارحكم بهذه الحقائق، ولكنها درجت فى أكثر من مناسبة على التخلص من مسئوليتها الوزارية بدعوى "التوجيهات الملكية" وهو ما يخالف روح الدستور، والملك الدستوى يملك ولا يحكم، كما أنها توهمت أن فى إرضاء الحاشية ضمانًا لبقائها فى الحكم وسترً لما افتضح من تصرفاتها، وهى أشد حرصًا على مغانم الحكم وليس على نزاهته، ولهذا لم نر بدا من أن ننهض بهذا الواجب فنصارحكم بهذه الحقائق ابتغاء وجه الله والوطن.. ..).
وأكثر من ذلك قال الزعماء السياسيون لفاروق فى هذه العريضة: (إن احتمال الشعوب مهما طال فهو لابد أن ينتهى يومًا، وإننا نخشى أن تقوم فى البلاد فتنة لا تصيبن الذين ظلموا وحدهم بل تتعرض البلاد إلى إفلاس مالى وسياسى وخلقى بعد أن مهدت لها آفة استغلال الحكم أسوأ تمهيد.. لهذا كله نرجو مخلصين أن تصحح الأوضاع الدستورية تصحيحًا شاملاً وعاجلاً وترد الأمور إلى نصابها تعالج المساوئ التى تعانيها مصر على أساس احترام الدستور، وطهارة الحكم، وسيادة القانون، واستبعاد من أساءوا إلى البلاد وسمعتها.. ..).
***
كان المفروض أن يكون لدى فاروق الوعى السياسى ليدرك خطورة هذه العريضة وأنها بعد هزيمة حرب 48 – إنذار بأن الأمور تسير فى اتجاه الثورة.. وكان عليه أن يقدر أهمية الشخصيات التى وقعت على هذه العريضة ومنهم رؤساء وزارات سابقون (إبراهيم عبد الهادى) وسياسيون ومثقفون كبار لهم تاريخ (الدكتور هيكل، ومكرم عبيد، وعبد السلام الشاذلى، ومصطفى مرعى، وعبد الرحمن الرافعى، وإبراهيم الدسوقى أباظة، وأحمد عبد الغفار، والشيخ على عبد الرازق، ونجيب اسكندر، وزكى ميخائيل بشارة، وغيرهم.. ولكن فاروق بدلاً من ذلك اعتبر هذه العريضة تمثل جريمة العيب فى الذات الملكية، وأمر بمنع نشرها، ومصادرة الصحف التى حاولت الإشارة إليها، وأصدرت الحكومة بيانا يكذب ما جاء فى هذه العريضة (جملة وتفصيلا) واستطاعت إقناع فاروق بأن تقديم هؤلاء الزعماء إلى المحاكمة الجنائية بتهمة العيب فى الذات الملكية يمكن أن يفجر مسائل يحسن السكوت عليها.
وبلغ استهتار فاروق إلى حد الإنعام بالرتب والنياشين على الحاشية المتهمة فى صفقات السلاح الفاسدة. وكان النائب العام قد رفع تقريرًا لوزير العدل طالب باستبعاد حيدر باشا وزير الحربية والفريق عثمان المهدى رئيس الأركان، ولكن فاروق أمر بحفظ التحقيق فى صفقات السلاح الفاسد.. وكانت المفاجأة بعد ذلك تفجير مخزن الأسلحة الذى يحوى جسم الجريمة، ولم يكن أحد من المسئولين عن هذا المخزن موجودًا فيه حتى من هم ملزمون بالتواجد فى نوبتهم، وكان هذا مثار الدهشة والريبة فى تعليقات الصحف.. ولم يبحث أحد أين كان هؤلاء المسئولون عن حراسة وتأمين هذا المخزن الضخم. ولماذا غابوا، ومن الذى وراء التفجير.. وككل جرائم الكبار يكون دائمًا (الفاعل مجهول!).
إنه عصر من الفساد.. ونظام حكم آيل للسقوط!
(والبقية تأتى).