أنيس منصور فى ذكراه الثانية 1 - 3

كثيرا ما كتبوا عن أنيس منصور أنه فيلسوف وكان هو يؤكد أنه أديب محب للفلسفة، ودارس للفلسفة، وشارح للفلسفة، ويكتب عن الفلسفة والفلاسفة بأسلوب سهل وبسيط يتناسب مع القارئ لأنه يكتب فى صحف يقرأها عامة الناس ولا يحاضر فى مدرجات الجامعة وبالتالى فهو شارح للفلسفة وليس فليسوفا صاحب نظرية فلسفية خاصة من إبداعه.

أنيس منصور درس الفلسفة فى كلية الآداب بجامعة القاهرة وتخرج فيها عام 1947 بتقدير ممتاز وكان هو أول من حصل على هذا التقدير، وعُيَّن معيدًا فى قسلم الفلسفة وتتلمذ على يد الدكتور عبد الرحمن بدوى أكبر أساتذة الفلسفة الذى يعتبر فيلسوفا بامتياز ، وكان أنيس منصور يتقن عدة لغات منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، ويقرأ ما يصدر منها فى الفلسفة والأدب، وكان محبا للسفر والتعرف على الناس والثقافات المختلفة فزار دول العالم كلها تقريبا أكثر من مرة وله كتب عديدة فى أدب الرحلات أشهرها كتاب «حول العالم فى 200 يوم» وكتاب «بلاد الله خلق الله» وكتاب «غريب فى بلاد غريبة» وغيـــرها كثير عــن رحلاتــــه إلى «بلاد الله». وقال عنه المتخصصون إنه كان واسع الاطلاع على الفلسفة والفلاسفة مما جعله أشبه بموسوعة فلسفية حية وأنه أيضًا موسوعة أدبية حية، وقد ترك الجامعة ليعمل صحفيا بدار أخبار اليوم وتدرج فى المناصب فتولى رئاسة تحرير عشر مجلات منها مجلة الجيل، ومجلة آخر ساعة، ومجلة أكتوبر، وصحيفة مايو، ومجلة كاريكاتير، وتنقل كاتبا فى العديد من الصحف منها الأخبار والأهرام والشرق الأوسط، بالإضافة إلى العديد من المجلات العربية، وقد أفادته دراسة الفلسفة فى تأملاته وأفكاره المتميزة، وله الفضل فى نشر المعرفة بالفلسفة الحديثة بين جماهير عريضة، ويعتبره الدكتور مصطفى النشار أستاذ الفلسفة المعروف «فيلسوفا متخفيا فى زى كاتب صحفى» وهو لذلك يدعونا إلى إعادة قراءة أعماله كلها لاكتشاف الكثير من «ومضات الفكر المستنير» الذى يحرض القارئ على استعمال عقله والتفكير فى معنى الحياة والموت والسعادة والحب والعداوة والأخلاق والفضيلة والخلق والنشور.. إلخ.

***

أنيس منصور - مثلا - ما هو النجاح؟ ويجيب بأنه أن تبذل جهدا أكثر من اللازم وتستمر فى ذلك، وأن تصنع شيئا له وزن ولا تتوقف عن العمل أبدا، والناجح هو الذى يعمل بالنصائح التى يدعو إليها الناس لأن البعض شاطر فى تقديم النصائح لغيره وهو لا يعمل بها (!). الكفاح يدفعك إلى أعلى، والصبر يجعلك تبقى هناك طويلا، والنجاح فى الزواج - مثلا - ليس اختيار الشخص المناسب فقط، بل أن تكون أنت الشخص المناسب.. ومشكلة الناس فى هذا الزمان أنهم يريدون أن يبلغوا أرض المعاد دون أن يضيعوا فى الصحراء، وليس أصعب من ضبط النفس فى زمن النجاح، وليس الرأس هو مصدر النجاح.. إنه اللسان أيضا.. وهناك مصدران للنجاح: أرق وعرق. أما القول بأن النجاح حظ.. فهذا ما يقوله الفاشلون، ونحن لا نطيق النجاح إذا كان نجاح الآخرين، وإذا كان النجاح حلوا فالطريق إليه شديد المرارة، ولم يصعد أحد سلم النجاح ويداه فى جيوبه.. والله أعطى الإنسان الحواس الخمس وأعطى الناجحين حاستين آخريين: الصبر والاستمرار.

وسر النجاح ليس أن تفعل ما تحب ولكن أن تحب ما تفعل، وإذا نظرت إلى الأمس فانظر إليه بلا ندم، وانظر إلى الغد بلا خوف.. فهذا هو النجاح.

لو أعدت قراءة هذه الرؤية للنجاح فسوف تتعرف على سر أنيس منصور.. العمق فى التأمل والتحليل، والبساطة والسهولة فى التعبير، والقدرة الساحرة على النفاذ إلى القلب، وتكتشف أنك فعلا كما قال الدكتور مصطفى النجار أمام فيلسوف متخفى فى زى كاتب صحفى.

***

تولى أنيس منصور رئاسة تحرير مجلة «الجيل» كتب مصطفى أمين مقالا قال فيه «عزيزى أنيس منصور إنك تجلس الآن على أكبر خازوق فى مصر» وقال أنيس إن منصب رئيس التحرير «مقلب كبير» وكتب: «أحمد الله على أننى كاتب وقارئ فقط، أقفل على نفسى باب مكتبى وليس لأحد أن يقتحم خلوتى، لكن رئيس التحرير يجلس فى الطريق العام ويهدر طاقته، وله تعبير يقول فيه إنه كرئيس تحرير يدخل المجلة «جنيه صحيح» ويخرج منها «فكه»!

وقد تعرض أنيس منصور لافتراءات كثيرة.. كان منها مثلا الإيقاع بينه وبين الرئيس عبد الناصر ومنعه عبد الناصر من الكتابة ونقله إلى جريدة الجمهورية فلم يتوقف عن الكتابة وظل يحرر صفحة المرأة بدون كتابة اسمه، وكان من أخطرها اتهامه بالإلحاد على الرغم من أنه أدى فريضة الحج أكثر من مرة، وله كتب دينية فيها شفافية الروح المؤمنة الصادقة مثل كتابه «طلع البدر علينا»، وعلى الرغم من أنه كان يحفظ القرآن منذ صغره، وعلى الرغم من تعمقه فى دراسة الأديان الأخرى وشرحها فى كتابه «ديانات أخرى» وبالرغم من كتاباته العميقة عن الإسلام وعن اهتمامه بالأديان الأخرى قال إن الفلسفة جعلته يدرس 28 دينا وجعلته يتردد على الكنائس والمعابد اليهودية والبوذية والبهائية.. وقال عن رحلته العقلية ووصوله إلى الإيمان واليقين إنه كان مثل رجل دخل أحد المتاحف وتنقل بين لوحات وتماثيل الأموات وأشباحهم وأرواحهم، وتوهم أنه انتقل إلى العالم الآخر وأنه مات ولكن فجأة قامت عاصفة فأطاحت بأحد النوافذ ودخل الهواء والنور والشمس وانفتحت الدنيا أمامه على شوارع وميادين، فانطلقت سعيدا بحريتى، ولكنى وجدت أن العالم الواسع ليس إلا سجنا واسعا، وأنا ضائع مرة أخرى، وحاولت أن أفهم ما حدث لى ولغيرى من الناس وتوهمت أن هذه هى الفلسفة.

***

إحدى زياراته إلى السعودية لأداء فريضة الحج صمم أن يصعد جبل النور وأن يدخل غار حراء الذى كان يعتكف فيه النبى صلى الله عليه وسلم ونزل عليه الوحى وهو معتكف فيه. لكنه وجد فتحة الغار مسدودة بالطوب لأن السلطات السعودية أرادت منع الناس من التزاحم فى دخوله وبعضهم كان يموت من التعب والاختناق، وقد احتمل أنيس التعب والاختناق وكرر صعوده إلى الغار فى زيارات متعددة لأداء الحج ويعيش مع ذكرى الرسول الذى كان يمضى أياما فى هذا المكان يتأمل فى خلق الكون ومعجزات الخالق ويصفو قلبه حتى يصل بروحه إلى السماء.. وكان من نصيب أنيس أن يدخل إلى داخل الكعبة عدة مرات وقال فى وصف شعوره فى كل مرة: «غمرتنى الراحة، وأحسست أن شرايينى من النيون الهادئ بلا حرارة ولا صوت، وأننى فى حالة بين الحياة والموت، فلا أنا أشعر بجسمى، ولا أنا روح بلا جسم، وعندما خرجت من داخل الكعبة أخذت أشعر بجسمى قطعة قطعة حتى أصبحت ثقيلا على وجدانى وعلى فكرى، وأعيدت لى حياتى العادية».. وكتب عن مشاعره فى مسجد الرسول فقال: «إحساس فى مسجد الرسول شىء آخر، فهنا كان يقيم الرسول، وهنا كانت زوجاته، وعند كتفى الرسول دفن أبو بكر، وعند قدمى الرسول دفن عمر، كان مسجد الرسول صغيرا عشرين مترا فى عشرين مترًا وكان عدد سكان المدينة كلهم ثلاثة آلاف.. نصفهم من اليهود والنصف الثانى وثنيين أصبحوا مسلمين.. وكان الرسول شخصية آسرة، لم يكن لديه مال ولا جيش، ولكن لديه أمانته وصدق شخصيته والقدوة التى كان عليها، ومات يوم الاثنين، وفى يوم الاثنين ولد وفى يوم الاثنين رفع الحجر الأسود بيديه ويوم الاثنين بدأ الهجرة وبلغ المدينة يوم الاثنين، ونزل عليه الوحى يوم الاثنين وأنجاه الله من الكفار وهو فى الغار اختبأ فيه مع الصديق أبو بكر يوم الاثنين، وفى يوم الاثنين أيضا وصل إلى المدينة وفى يوم الاثنين مات.. عليه الصلاة والسلام.

***

أنيس منصور للكاتب إبراهيم عبد العزيز سرا لم يكن يعرفه أحد، وهو أنه كتب مذكراته فى 400 صفحة ثم مزقها ولما استعصت على التمزيق حرقها حتى لا يرجع فى كلامه ولا يترك منها أثرا، والسبب أنه كتبها بصراحة وفيها أحداث ووقائع رأى أنه سيكون مثل الدكتور لويس عوض الذى فضح أهله فى مذكراته وتسبب ذلك فى مشاكل له وإساءة لاحقته فى حياته وبعد رحيله.. وقال: وجدت أن مذكراتى عن أهلى ليست ملكى ولذلك أشعلت النيران فيها وكنت حزينا كأننى كنت أحترق معها رغم أنى أوصيت فيها بأن يحرقونى مع كتبى لأصير رمادا ودخانا، ولكن من ذا الذى سينفذ وصيتى؟ لا أحد. وكتابة المذكرات فى بلاد الشرق عموما مسألة صعبة لأن الناس لن يقدروا ولن يعذروا، وسيحاسبونك على ما مضى وفات باعترافك.

الغريب أن أنيس منصور عاش فى الصحافة كل عمره وكان رئيسا لتحرير عشر مجلات ومع ذلك كان يقول دائما إنه ليس صحفيا وإنه يعتبر نفسه أديبا يكتب للصحافة، والحقيقة أنه متعدد المواهب.. فهو أديب ومؤلفاته فى الأدب تشهد بذلك، وهو فيلسوف وكتاباته فى الفلسفة دليل على ذلك، وهو صحفى وتاريخه المهنى يؤكد ذلك.. وهو ناجح ومتفوق فى كل مجال.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف