فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 21 )
كان فاروق ورجاله ونظام الحكم السبب الرئيسى لنكبة 1948. قرر فاروق دخول الحرب دون استعداد وفقًا لأبسط مبادىء الحرب. ودفع الجيش إلى المعارك وهو يعلم مسبقًا أن العصابات الصهيونية ليست وحدها فى هذه المعارك، وأن القوى الكبرى – بريطانيا وأمريكا – وراء هذه العصابات بالفكر العسكرى، وبالإمدادات بالسلاح، والمناورات السياسية لإجهاض ما يحققه المصريون من انتصارات تكتيكية بشجاعتهم وليس بسلاحهم. ثم تحول فاروق من التقصير إلى الخيانة بصفقات السلاح الفاسدة. يقول المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى: (إن فاروق استغل حرب فلسطين استغلالاً وضيعًا قلما وصل إليه ملك من قبل، فقد انتهز حاجة الجيش إلى الأسلحة والذخائر من الخارج لاستكمال تسليحه، فاتجر شخصيًا مع المقربين إليه فى صفقات من الأسلحة والذخائر وتبين أنها أسلحة وذخائر فاسدة كانت لا تصيب المرمى، وقد أودت بحياة الكثيرين ممن كانوا يستعملونها من الجنود والضباط. وكان عملاء فاروق يجولون الأسواق فى أوربا ويعقدون هذه الصفقات الحرام ويرسلونها إلى مصر لتنقل إلى ميدان الحرب فى فلسطين وتحقق لهم من هذه الصفقات أرباحًا وفيرة تقاسمها فاروق وعملاؤه وكانت من أسباب الهزيمة فى حرب فلسطين).
ويضيف الرافعى: (لقد نزل فاروق فى هذا الاستغلال إلى أحط درجات السقوط والخيانة. وأى جريرة أفظع من أن يكسب ملك المال الحرام عن طريق تعريض بلاده للهزيمة، وتعريض أفراد الجيش للهلاك؟. وليس فى مساوىء فاروق كلها ما يعادل هذا الإثم فى فظاعته ووضاعته، وكانت هذه الجريمة هى الضربة القاصمة التى زلزلت العرش وأطاحت بالبقية الباقية من سمعة فاروق وملأت نفوس المواطنين سخطًا عليه).
هذا ما يقوله المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى. ويذكر أيضًا أن التقارير الفنية سبق أن لفتت نظر إدارة الجيش إلى فساد هذه الأسلحة، ثم سجل رئيس ديوان المحاسبة وقتئذ (محمود محمد محمود) فى تقرير له ملاحظات عن هذه المسألة الخطيرة، فغضب فاروق على رئيس ديوان المحاسبة، واضطره إلى الاستقالة! وقدم مصطفى مرعى فى مايو سنة 1950 م سؤالاً بمجلس الشيوخ ثم حول السؤال إلى استجواب عن أسباب استقالة رئيس ديوان المحاسبة، كما شرح وقائع الفساد فى صفقات السلاح شرحًا لقى تأييدًا من المعارضين ومن الرأى العام، وانتهى مصطفى مرعى إلى اقتراح تأليف لجنة برلمانية لتحقيق أسباب استقالة رئيس ديوان المحاسبة.
فكان رد فاروق ثلاثة مراسيم ملكية فى 17 يونية 1950 عصفت بكيان مجلس الشيوخ. فقد تضمن المرسوم الأول إخراج عدد كبير من المعارضين من مجلس الشيوخ بطريقة تنطوى على اعتداء صارخ على الدستور. وقضى المرسوم الثانى بتعيين أعضاء جدد من صنائع السراى والوزارة، وأسقط المرسوم الثالث رئاسة الدكتور محمد حسين هيكل لمجلس الشيوخ وتعيين على زكى العرابى رئيسًا للمجلس! وبعد ذلك ألقى وزير الجريمة (مصطفى نصرت) بيانًا أمام مجلس الشيوخ بتشكيله الجديد قال فيه إن هناك أفرادًا كثيرين وجهات متعددة أملت عليها مصالحها الخاصة إثارة الشكوى فى أعمال التوريدات للسلاح، فبعد البحث والتدقيق اتضح أن التوريدات لا غبار عليها!
ويروى الرافعى الفصل الثانى من المأساة، حين نشر إحسان عبد القدوس ثلاث مقالات تضمنت أدلة على فساد الأسلحة والذخائر، كان لها أصداء واسعة فى الرأى العام، فتقدمت وزارة الحربية ببلاغ إلى النائب العام للتحقيق فى هذا الاتهام، وبالفعل بدأت التحقيقات وتناولت اشتراك بعض رجال حاشية فاروق والمقربين إليه فى هذه الصفقات، ومست الملك شخصيًا، وصدر أمر من النائب العام بالقبض على إدمون جهلان السمسار الأول لصفقات فاروق وأدانه فى إيداع نصيبه فى هذه الصفقات فى البنك البلجيكى والدولى، ولكن أمر النائب بالقبض على إدمون جهلان لم ينفذ لأن جهلان احتمى بالسراى وساعده فاروق على العودة إلى أوربا بدعوى أنه أمين صندوق الرحلة الملكية التى بها فاروق – أثناء ههذ الأزمة – للنزهة فى أوربا، ودلت الملابسات على أن إدمون جهلان أخذ بعض الأوراق الدالة على اشتراك فاروق فى صفقات الأسلحة الفاسدة.
***
يقول المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى إن فاروق تدخل فى تحقيقات النيابة تدخلاً سافرًا، و منع استمرار الإجراءات ضد شركائه، فعند تفتيش النيابة خزانة إدمون جهلان أوفد فاروق ناظر الخاصة الملكية أثناء التفتيش وتسلم الأوراق والوثائق التى كانت فى الخزانة بحجة أنها تخص الملك، ومن هذه الأوراق كشوف الحساب لأنصبة الشركاء!
وكالعادة انتهى التحقيق بحفظ القضية بالنسبة لرجال الحاشية، وظن فاروق أنه بذلك نجا هو وعصابته من القضية، ولكن الأحداث أثبتت بعد ذلك أن الجريمة لا تفيد!
ويحقق المؤرخ العسكرى اللواء الدكتور إبراهيم شكيب فى رسالة جامعية للدكتوراه تفاصيل فضيحة الأسلحة الفاسدة، وخاصة ما جاء فى استجواب مصطفى مرعى فى مجلس الشيوخ من ملاحظات بالمدافع التى سجلت تقارير فنية من داخل الجيش ما يشوبها من عيوب بالنسبة للسعر أو الأشخاص الذين تعاقدوا نيابة عن الحكومة، وكذلك الصفقات الخاصة بالذخيرة للسلام البحرى ووجد ديوان المحاسبة أنها كهنة! وبالرغم من اكتشاف أمرها أثناء التوريد إلا أن التوريد استمر ودخلت هذه الذخيرة فى مخازن وادى حوف، وعند اختبارها وجدت جميعها تالفة. وخص تقرير ديوان المحاسبة من بين الموردين اثنين هما: المليونير عبد اللطيف أبو رجيلة رجل الأعمال المشهور وصاحب أسطول أتوبيسات النقل بالقاهرة والصفقات الكبرى، والثانى هو عمر سيف الدين.
وعلى الرغم من دقة المعلومات فى تقارير ديوان المحاسبة عن فساد هذه الأسلحة والجرائم المتعلقة بشرائها إلا أن الحكومة سبقت القضاء وأعلنت عدم وجود أخطاء. وفيما بعد نظرت قضية الأسلحة الفاسدة أمام القضاء وثبت للقضاء أن بعض هذه الصفقات يجب أن يؤاخذ بعض المسئولين عنها وفقًا لقانون العقوبات. وفى مقال لإحسان عبد القدوس فى روزاليوسف فى 6 يونية 1950 تحت عنوان: (من هو الضابط الذى يملك قصرًا فى جزيرة كابرى؟). وكان يقصد عمر سيف الدين قال عنه إنه يملك قصرًا فى جزيرة كابرى على حساب شهداء فلسطين، وكتب إحسان مقالاً بالعدد التالى يوم 13 يونية 1950 تحت عنوان (محاكمة مجرمى حرب فلسطين) قال فيه إن النبيل عباس حليم (من الأسرة الملكية) كان يستورد السلاح، وكانت الأموال تودع فى البنوك بأسماء الزوجات والأمهات. وقال فى هذا المقال إن كبار القادة أثناء حرب فلسطين كانوا يترددون كثيرًا قبل أن يصدروا أوامر الهجوم، لأن الضباط والجنود اكتشفوا أن الرصاص مغشوش، والألغام لا تنفجر، ومات بعضهم بالقنابل التى تنطلق إلى الوراء، وقال أيضًا إن إنجلترا لا تثق فيما تقوله الحكومة المصرية عن مقدرتها على الدفاع عن القنال بسبب القصور فى أدائها فى حرب فلسطين. وذكر إحسان بعض أمثلة عن صفقات الأسلحة الفاسدة: صفقة مع شركة أورليكون السويسرية لتوريد 16 مدفعا 105 ملليمترات و48 ألف طلقة بسعر المدفع (60 ألف دولار) وبسعر الطلقة الواحدة (66) دولارًا وثمن الصفقة أربعة ملايين ومائتين وثمانين ألف دولار وأبرم العقد بدون تفاصيل ولا بيانات ولا شرط جزاء ولا احتياطات مما يفترض فى أية صفقة. والذى حدث أن الشركة السويسرية تعاقدت على توريد هذه الأسلحة من مصانع السلاح فى أسبانيا على أن تشحن الصفقة من أسبانيا، وقد أبدى وكيل وزارة الخارجية الأسبانية دهشته من هذا التصرف للقائم بأعمال المفوضية المصرية فى أسبانيا (عبد المنعم الطحاوى) وقال له إن الحكومة المصرية كانت تستطيع أن توفر 40% من ثمن هذه الصفقة لو أنها عقدتها مع المصانع الأسبانية مباشرة! وعندما سافر إلى أسبانيا ضابط المدفعية المنتدب لفحص هذه الأسلحة قبل شحنها كتب تقريرًا إلى الوزارة أبلغها فيه أن المدافع لا تصلح لعدة أسباب فنية ذكرها بالتفصيل. ومثال آخر: صفقة مع شركة أوليكون أيضًا لتوريد (50 مدفعا مضادًا للطائرات، ثمن المدفع 250 ألف جنيه، وهذه المدافع سبق أن عرضت على مصر ورفضها عزيز المصرى عندما كان مفتشًا للجيش لأنها قصيرة المدى ولا تصيب الطائرات! بينما كانت شركة سويدية تعرض توريد مدافع أكثر كفاءة، ثمن المدفع 7 آلاف جنيه فقط، ورفض العرض على الرغم من التقارير الفنية التى أكدت جودتها، والسر أن النبيل عباس حليم كان الممثل لشركة أورليكون السويسرية فى مصر(!)، وفى العدد التالى (20 يونيو 1950) .
قال إحسان فى مقاله بنفس العنوان (محاكمة مجرمى حرب فلسطين) إن عقدًا مكتوبًا بين أحد تجار الأسلحة وبين زوجة المقدم جورج إبراهيم سعد ينص على توريد أسلحة للجيش المصرى – العقد بتاريخ 14 يناير 1948 ومكتوب بخط يد الضابط نفسه وقع عليه بخط زوجته. وهذا الضابط يتولى مركزًا دقيقًا يتصل بعمليات شراء الأسلحة للجيش، ومن المقربين من إبراهيم المسيرى رئيس لجنة الاحتياجات فى وزارة الحربية. وقد تعاقد على توريد 250 ألف قنبلة من رومانيا، وهذه القنابل انفجرت فى أيدى الجنود المصريين واضطر القائد العام للقوات فى فلسطين إلى إعدام 50 ألف قنبلة وصلت إليه، وتم إدخال 200 ألف قنبلة فى مخزن الذخيرة بوادى حوف.
وقصة حرب 48 هى قصة فساد نظام حكم لا مثيل لها، ولا تزال لها بقية.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف