فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 20 )
دفعت مصر ثمنا باهظا للقرار العشوائى الذى اتخذه فاروق بدخول الجيش المصرى الحرب فى فلسطين بدون استراتيجية واضحة، وبدون خطط عسكرية معدة إعدادا جيدا، وبدون تسليح الجيش بأسلحة صالحة وكافية، وحتى بدون استشارة رئيس الوزراء أو عرض قرار الحرب على مجلس الوزراء أو مجلس الشيوخ والنواب! تذكر الدكتورة لطيفة محمد سالم أستاذ التاريخ الحديث أن فاروق سعى للبحث عن مكسب يمكن أن يعوضه عما فقده من تأييد شعبى نتيجة انتشار الغلاء والفساد، ويحول غضب الشعب عنه، وقد تفجر هذا الغضب وانتشر إلى حد قيام البوليس بإضراب فى أوائل أبريل 1948. وقد كتب السفير البريطانى فى تقرير إلى حكومته: أن الغضب الشعبى – من تصرفات الملك الشخصية واستهتاره بمصالح الشعب والتنكيل بالحركة الوطنية – كان السبب الذى دفع فاروق إلى تأجيل الاحتفالات المعتادة بعيد الميلاد الملكى. ولم يكن فاروق يتقبل ذلك بسهولة إلا أن سوء الحالة الداخلية وانتشار المظاهرات وتقارير إدارة الأمن التى نبهت إلى أن شباب الوفد سيلقون القنابل فى أماكن الاحتفال، وأن الطلبة سوف يقومون بمظاهراتهم فى ذلك اليوم. وكانت احتفالات عيد جلوس الملك قبل ذلك قد شهدت اضطرابات، وانفجرت قنبلة فى سينما مترو أودت بحياة بعض الناس.
ومن أجل استعادة شعبية الملك أصدر فاروق أوامره باجتياز الجيش الحدود إلى الأراضى الفلسطينية فور إعلان قيام دولة إسرائيل فى 15 مايو 1948، دون إعداد ودون قرار من مجلس الوزراء أو من البرلمان، بل من غير علم رئيس الوزراء (النقراشى)، وللحفاظ على الشكليات طلب رئيس الوزراء من رئيس مجلس الشيوخ (الدكتور محمد حسين هيكل) عقد البرلمان فى جلسة سرية، وعرض قرار الحرب بصورة غير دقيقة أكد فيها أن استعدادات العسكرية كاملة، مما أدى إلى الموافقة على إعلان الحرب. وقد حولت الحرب الغضب الشعبى السائد فى اتجاه آخر، وأمكن إحكام السيطرة على الأمور بالأحكام العرفية التى أسئ استعمالها بحجة أن البلاد فى حالة حرب. ولكن جاءت الهزيمة بعد ذلك فتصاعدت أعمال العنف.
وتسجل مضبطة مجلس الشيوخ للجلسة السرية مساء يوم 11 مايو 1948 التى وافق فيها المجلس على دخول الجيش المصرى الحرب فى فلسطين أن إسماعيل صدقى وجه إلى رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى 14 سؤالا كان أهمها عن مدى صحة التحذير الذى وجهته إلى مصر كل من أمريكا وبريطانيا من عواقب دخول الحرب، وعن مدى استعداد مصر عسكريا واقتصاديا لهذه الحرب التى قد تتسع ويطول مداها، وعن صحة المعلومات التى تؤكد أن الجيش المصرى تنقصه الذخيرة، وأن المتوافر لديه منها لا يكفى إلا أياما قليلة، وأن سلاح الدبابات يكاد يكون معدوما، وسلاح الطيران فى حكم العدم، وعن إمكان الحصول على أسلحة وعتاد أثناء الحرب؟
وكانت الإجابة أن الأسلحة والمعدات العسكرية موجودة، وأن الذخيرة كافية، وفى الإمكان الحصول على ما يحتاج إليه الجيش من السلاح والذخيرة فى أى وقت. وتبين بعد ذلك أن فاروق أصدر الأمر بوصفه القائد الأعلى للجيش إلى قائد الجيش – الفريق حيدر باشا قبل العرض على مجلس الشيوخ ومجلس الوزراء – بتجهيز الجيش لدخول أرض فلسطين، وأن الفريق حيدر نفذ الأمر دون إبلاغ رئيس الوزراء، وأكد الفريق حيدر للملك أن الجيش المصرى وحده – بجنوده وعتاده – قادر على أن يدخل تل أبيب فى خمسة عشر يوما من غير حاجة إلى معونة من الــدول العربيــة الأخــرى!
***
وفى رسالة الدكتوراه للواء الدكتور إبراهيم شكيب التى أصدرتها دار الزهراء للإعلام العربى أدلة بالأرقام أن الاستعدادات العسكرية للجيش المصرى لم تكن كافية، وأن قوة الجيش ظلت دون زيادة حتى تاريخ إعلان الحرب. وينقل الدكتور شكيب عن وثائق حرب أكتوبر (ملف رقم 194 مسلسل 19) بوزارة الحربية أن قوة السلاح الجوى كانت 39 طائرة من طرازات مختلفة، وقوة السلاح البحرى كانت مكونة من كاسحتين للألغام متوسطتين، وسفينة نقل، و3 زوارق، وسفينة أخرى احتياطى وزوارق نقل ثقيل، وأن كمية الذخيرة بالمخازن لم تكن تكفى للقتال إلا لمدة 4 أسابيع على الأكثر لذخيرة الأسلحة الصغيرة (البنادق والرشاشات) وحوالى أسبوعين لذخيرة المدافع بأنواعها. وفى تقدير الموقف الذى أعده الجيش أن الإمداد بالذخيرة سوف يعتمد على فائض وزارة الحرب البريطانية، ومخازن الشرق الأوسط، ولم يسمح بالاحتفاظ باحتياطى عام للجيش المصرى. أما حالة العربات فقد أجمعت التقارير على أن الموقف بالنسبة لها سيئ على الرغم من أهميتها، وذلك لعدم تجديد العربات المستهلكة وصعوبة استيراد عربات جديدة.. هذه المعلومات كتبها رئيس أركان حرب الجيش – اللواء عثمان المهدى – فى مذكرة رسمية، كما طلب مدير إدارة العمليات الحربية والمخابرات فى مذكرة رسمية يطلب فيها سرعة استكمال احتياجات القوات من العربات والمعدات والأسلحة والذخيرة، وعمل ترتيب لضمان إمداد القوات بالأسلحة والذخائر أثناء القتال، وإعداد الاحتياطى العام للمشاركة فى الحرب. معنى ذلك – من واقع الملفات والوثائق الرسمية – أن الجيش المصرى لم يكن جاهزا للحرب.. لم تكن لديه الأسلحة والمعدات والذخيرة الكافية، والعربات قديمة وناقصة، بالإضافة إلى القصور فى معلومات المخابرات عن العدو. ويستخلص المؤرخ العسكرى الدكتور إبراهيم شكيب من دراسته لتفاصيل سير الحرب أن قرار دخول الحرب بدون استعداد كاف كان قرارا تحكمه خطة إعلامية لإثارة حماسة الجماهير، وليست خطة عسكرية قائمة على مبادئ الحرب.. كانت حملة فلسطين وما شابها من قرارات سياسية سلسلة متصلة من الخروج على مبادئ الحرب. فالغرض أو الهدف من هذه الحملة لم يتحدد للعسكريين أو حتى للسياسيين، فلم تحط رئاسة هيئة أركان حرب الجيش بالهدف الاستراتيجى أو حتى الأهداف التكتيكية للحملة، ومن الغريب أن القائد العام للحملة أرسل خطابا من الميدان بعد شهر من بدء القتال يستفسر فيه عن الغرض من الحرب، ويطلب تحديد الأهداف! وقد انعكس هذا التخبط على كل جندى فى الميدان، وكان تأثيره بالغا على الروح المعنوية والقدرة القتالية، وكان الضباط يدركون أن خطوط المواصلات الخاصة بقواتهم معرضة للقطع، وهذا يفرض عليهم القيام بهجمات مضادة لاستعادة ما قطع منها، مما يؤدى إلى استنزاف القوة البشرية والمعدات. وكان المفروض أن يتم تأسيس قاعدة فى غزة – بئر سبع – وقد لخص المؤرخ الاستراتيجى ليدل هارت هذه الحالة فى كتابه عن الاستراتيجية بقوله: إن حرب 1948 كانت حرب طرق المواصلات. والأغرب من ذلك أن تعبئة الجيش واستكمال أسلحته ومعداته وذخيرته واستدعاء الاحتياطى وتدريبه لم يتم قبل دخول الحرب ولكنه بدأ بعد أن دخل الجيش فى المعارك مع الإسرائيليين، وكان المفروض إما تأجيل العمليات الحربية إلى أن يتم الاستعداد، وإما تحديد الهدف أمام القوات المصرية بما يتناسب مع القوة التى أمكن تدبيرها.
***
دخل الجيش المصرى الحرب وهو يعانى من نقص فى الحملة الميكانيكية بلغ 60%، فضلا عن النقص فى وحدات الاستطلاع والوحدات المدرعة، وظل هذا النقص من بداية الحملة وحتى نهايتها، وفقدت القوة المصرية ميزة المبادأة وأصبحت المبادأة للإسرائيليين، وأصبح الجيش يعمل على خطوط مواصلات طويلة ومهددة لا تمكنه من خفة الحركة، بينما الإسرائيليون يعملون على خطوط مواصلات داخلية قصيرة ومؤمّنة مستخدمين العربات المدرعة والدبابات. ثم إن فاروق كان يريد انتصارات سريعة ولو على غير أساس سليم من الناحية العسكرية، فأصدر أوامره إلى القوات باحتلال مساحات شاسعة كانت أكبر بكثير من حجم القوات المتوافرة، ولذلك اضطر قائد الحملة إلى احتلال هذه المساحات بقوات صغيرة متباعدة بعضها عن بعض، مما أرهق هذه القوات، ولم تكن أمام قائد الحملة الفرصة للاحتفاظ بقوات احتياطية لدفعها فى أى اتجاه وفقا لسير المعارك. واضطرت القوات المصرية إلى الهجوم على مواقع الإسرائيليين بقوة أقل كثيرا مما تحتاج إليه المعارك، بينما كانت استراتيجية الإسرائيليين مختلفة وشرحها الجنرال إيجال يادين الذى كان رئيس الأركان العامة الإسرائيلية عقب حرب 48 فى دراسة ضمها ليدل هارت إلى كتابه عن الاستراتيجية، وقال فيها إن الهجوم غير المباشر يمثل محور المذهب العسكرى الإسرائيلى، وقال:(لا شئ أخطر من الروح الهجومية لدى العدو، ولذلك يجب علينا أن نواجه هذه الروح الهجومية بعزيمة هجومية أقوى، ولا يرد الهجوم إلا أن نسبق العدو بالهجوم، فإذا سبقنا فالنتائج مضمونة لنا، لأن أيام الهجوم بالمواجهة انتهت، وأن فن التعبئة اليوم يتلخص فى أن الواجب الرئيسى للهجوم يجب أن يتحقق بواسطة هجمات فى الأجناب أو فى المؤخرة.. ولابد من ضرب وقطع خطوط المواصلات للعدو، وقطع طرق الانسحاب أمامه باحتلال الأماكن التى يسيطر عليها وهذا كفيل بتحطيم معنوياته، وضرب المراكز الإدارية والقيادية ووسائل الاتصال السلكية واللاسلكية لتأمين قطع الاتصال بين القيادة وهى المخ والوحدات وهى القوة الضاربة.
هكذا طبق الإسرائيليون مبادئ الحرب ولم يهتم السياسيون فى القاهرة بهذه المبادئ. كانوا فقط يريدون نصرا مدويا يجعل الجماهير تتلهى عن المشاكل والأزمات والفساد، مما كانت البلاد غارقة فيه.. ثم ماذا؟