يدخل الفلسطينيون في هذه المرحلة في امتحان صعب, بعد رحيل عرفات الذي كان رمزا يلتفون حوله مهما اختلفوا معه, وقد رحل عرفات والوضع في الاراضي الفلسطينية في حالة اختناق.
كان المكسب الذي حققه عرفات انه دخل أرض فلسطين بعد أن عاش وشعبه في التيه سنوات طويلة, ورفع علم فلسطين, واقام سلطة الحكم الذاتي باعتراف دولي, ولكن هذا الحكم الذاتي أصبح بعد ذلك خاليا من المضمون بعد أن اجهض شارون القدرات الفلسطينية.
والآن فإن الإدارة الفلسطينية الجديدة سوف تبدأ من نقطة الصفر تقريبا, بعد أن دمرت إسرائيل المؤسسات الفلسطينية وقتلت عمدا مع سبق الاصرار والترصد عشرات من القادة, ولم تتورع عن قتل الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وسجن البرغوثي... أي أن إسرائيل وصلت إلي درجة لم تعد تراعي فيها العدالة أو القانون أو الاخلاق, مستندة إلي التأييد من الإدارة الأمريكية الحالية الذي وصل إلي درجة لم يسبق لها مثيل.
في الضفة وقطاع غزة لم تتمكن السلطة الفلسطينية من اقامة أي مشروع اقتصادي, أو توفير الخدمات الأساسية, لأن إسرائيل حريصة علي أن تبقي الأراضي الفلسطينية سوقا مفتوحة للبضائع والمنتجات الإسرائيلية, ولم تتمكن السلطة من تكوين وتدريب كوادر فنية وإدارية, أو حتي كوادر أمنية كافية, ولم يصل الفلسطينيون إلي صيغة يتفق عليها الجميع لحل التناقضات القائمة في المجتمع الفلسطيني بين الجيل الذي تحمل اعباء النضال في المنفي والجيل الذي عاش وتحمل اهوال النضال من الداخل تحت ضغط الاحتلال والقمع... وبين الذين عانوا من الاعتقال وشهدوا بعيونهم مقتل آبائهم وامهاتهم وابنائهم, وتحملوا الإهانات والإذلال عند المعابر, وبين الذين قاوموا الاحتلال سرا.. بين الذين واجهوا آلة الحرب الإسرائيلية بالحجارة في اثناء الانتفاضة, وبين الذين قضوا نفس الفترة يدرسون في الجامعات في الخارج... كل ذلك وتعاني سلطة الحكم الذاتي ازمة مالية وصلت في مرحلة من المراحل إلي التوقف عن دفع رواتب رجال الأمن والموظفين في المرافق الأساسية.
والذين خرجوا الآن لتوجيه النقد لعرفات ويصفونه بأنه كان ديكتاتورا هم أنفسهم الذين كانوا يقولون عنه أنه متردد وغير قادر علي اتخاذ القرار, والذين يقولون اليوم إنه لم يستطع إحراز أي تقدم بمناوراته وتصلبه هم الذين كانوا يشيدون بالانجازات والانتصارات التي حققها للقضية وللشعب الفلسطيني دوليا ومحليا, وهؤلاء لم يدركوا أن عرفات كان مرحلة تحول من دور الثائر إلي دور الحاكم, ولم تكن إسرائيل تعطيه الفرصة لإتمام هذا التحول, فكان مضطرا للجمع بين الدورين في وقت واحد, الثائر والحاكم, ومثل هذا الموقف لا يرضي الجميع.
وهؤلاء يتجاهلون الظروف الخاصة جدا التي عاش فيها عرفات, فهو لم يصل إلي الحكم في دولة, ولكنه وصل إلي سلطة لها طبيعة غامضة وهلامية ومنقوصة, وليست هناك دولة لكي يتولي إدارتها, وهذا ما عبر عنه الكاتب الإسرائيلي يوري أفينيري حين قال إن بن جوريون حين حكم إسرائيل عام1948 كان البريطانيون قد تركوا له دولة وقوانين سارية منذ عشرين عاما, ومنحته الأمم المتحدة ودول العالم لهذه الدولة اعترافا جعل لها وجودا في الداخل والخارج, ونيلسون مانديلا تسلم الحكم في جنوب إفريقيا, وهي دولة مكتملة ولها اقتصاد قوي ومؤسسات سياسية وتشريعية وكوادر مؤهلة في كل المواقع, وقد تسلم مانديلا السلطة دفعة واحدة, بينما تسلم عرفات وضعا مرحليا شديد التعقيد, ولم يكن امامه فرصة لاختيار وضع غيره.
وهذا يعني أن الاوضاع الفلسطينية كلها أوضاع استثنائية, وصعبة, ومعقدة, وفيها قوي دولية واطراف محلية, واحتلال يمارس العنف إلي اقصي درجة, ويستند إلي تأييد أمريكي مطلق, وصمت دولي, وعجز عربي... وكل هذا يفرض علي الفلسطينيين أن يكونوا في هذه المرحلة في منتهي اليقظة والوعي, وأن يحسبوا لكل خطوة حسابها, وألا ينساقوا وراء الشعارات والانفعالات, وأن يحسنوا اختيار القيادة القادرة علي لم الشمل وتوحيد الصف, ويسيروا وراءها دون أن تبدد قواهم الخلافات, لأن العالم ينظر اليهم وينتظر ما سيقومون به ليحكم لهم او عليهم, وليساعدهم أو يتخلي عنهم, وليؤيدهم أو يشارك في ادانتهم.
هذا الوقت يحتاج إلي صف فلسطيني واحد, وصوت فلسطيني واحد, ولعنة الله علي مثيري الفتنة والداعين الي الخلاف, لأن الوطن الفلسطيني سيكون هو الضحية.