الشيخ المراغى ولعنة السياسة
كان الشيخ محمد مصطفى المراغى من أعظم الرجال الذين تولوا مشيخة الأزهر علمًا وخلقًا وشجاعة فى إعلان كلمة الحق فى وجه الملك حتى وهو فى قمة رعونته، ولكن لعنة السياسة أصابت الشيخ بما يصيب رجال السياسة.
أصاب الشيخ المراغى رذاذ كثير من خصومه.. قالوا إنه كان عميلا للإنجليز، وقالوا إنه كان «مفتى السلطان» يبرر للملك فؤاد ثم للملك فاروق نزواتهما واستبداهما، والحقيقة أنه لم يكن كذلك بل كان صاحب فكر مستنير يؤمن بأن الدين قوة دافعة للتقدم والرقى فى جميع المجالات. كان تلميذا للشيخ محمد عبده وامتدادا لمدرسته فى التجديد وملاحقة العصر بفكر دينى منفتح.. ولد سنة 1881 وتوفى سنة 1945 وتولى مشيخة الأزهر مرتين الأولى فى سبتمبر 1928 واستقال سنة 1929 أى بعد عام واحد وهو بذلك شيخ الأزهر الوحيد الذى استقال من هذا المنصب الرفيع، وعاد بعد ذلك إلى منصبه فى سنة 1935 وبقى فيه حتى وفاته فى أغسطس 1945 وعمره 64 عاما. قبل مشيخة الأزهر كان فى السودان يشغل منصب «قاضى القضاة» وكانت له هناك مواقف وطنية ضد الاحتلال البريطانى.. وعندما تولى مشيخة الأزهر بدأ على الفور فى تنفيذ مشروعه لاصلاح الأزهر فأدخل فى مناهجه دراسة العلوم الحديثة لأول مرة بعد أن كانت الدراسة فى الأزهر مقصورة على العلوم الدينية واللغوية فقط.
الشيخ.. والملك
بحث رجاء النقاش فى كتابه «الإمام المراغى: حياته وأفكاره» الاتهامات التى وجهت إلى الشيخ المراغى ومنها أنه كان فى خدمة أهواء الملك فؤاد ثم الملك فاروق فوجد أن هذا الاتهام مصدره الصراعات الحزبية التى كانت سائدة فى مصر قبل الثورة وكانت للشيخ المراغى ميول حزبية معروفة، والحقيقة أنه كان مصلحا كبيرا يحمل مشروعا رائدا لتطوير التعليم الدينى، وتحرير العقل المصرى من الجمود، والربط بين الشريعة واحتياجات العصر وهموم الناس.. وهذا التوجه لم يكن مألوفا إذ كان الفكر الدينى محصورا فى دائرة ضيقة من أفكار الأقدمين.. ويروى ال?يخ المراغى أنه تعلم من أستاذه محمد عبده درسا لاينساه حين قال له: هل تعرف تعريف العلم؟ فذكر له ما كان يحفظه من تعريفات للعلم فقال له محمد عبده: العلم هو ما ينفعك وينفع الناس، فهل انتفع لتكون عالما.. ومن هذا الدرس تصدى الشيخ المراغى لعلماء الأزهر الدين عارضوا مشروعه لادخال الحساب والجبر والهندسة والتاريخ والطبيعة فى مناهج الأزهر وقالوا إن تدريس هذه العلوم حرام.. والثابت تاريخيا أن الملك فؤاد عارض فى المرة الأولى تعيين الشيخ المراغى شيخا للأزهر. ولكن رئيس الوزراء - النحاس باشا - صمم على تعيينه، وعندما قدم الش?خ المراغى مشروعه لتطوير الأزهر رفض الملك فؤاد توقيع المشروع ليصبح قانونا.. فاستقال احتجاجا على رفض الملك لقانون إصلاح الأزهر وتولى بعده الشيخ الأحمدى الظواهرى مرشح الملك فؤاد فكان أول قرار له فصل 70 عالما من المؤيدين للشيخ المراغى فى مشروعه لإصلاح الأزهر، وبرر قرار الفصل بأن هؤلاء العلماء يقبضون مرتباتهم من الأزهر بدون أن يقوموا بعمل. وكان من هؤلاء المفصولين الشيخ محمود شلنوت الذى صار شيخا للأزهر بعد ذلك، والشيخ عبد الجليل عيسى عميد كلية الشريعة وأصول الدينى بعد ذلك وصار من أكبر رجال الفقه والشريعة ولهما ا?فضل فيما حدث من تطور واستنارة فى الأزهر عندما عادا بعد عودة الشيخ المراغى إلى مشيخة الأزهر 1935 بعد مظاهرات كبيرة قام بها العلماء والطلاب بتعيين شيخ الأزهر. وفى بحث رجاء النقاش توصل إلى عدم صحة ما قيل عن مساندة الشيخ المراغى للملك فاروق فى فساده ونزواته، وأثبت أنه كان على العكس يحاول أن يكون هاديا ومنبها للملك، وكان فى نفس الوقت حريصا على تنفيذ مشروعه لتطوير الأزهر والتوسع فى إرسال بعثات من علمائه وطلابه إلى أوربا حتى لا ينفصل الأزهر عن تطورات الحضارة الحديثة. ولأول مرة أصبح التعليم فى الأزهر فى كليات متخص?ة تدرس القانون والفلسفة والهندسة والرياضيات والمنطق والجغرافيا والتاريخ إلى جانب العلوم الدينية.
وقد اتهم الدكتور حسين مؤنس الشيخ المراغى بأنه كان يضفى على الملك فاروق لقب «أمير المؤمنين» ولكن رجاء النقاش يقدم لنا الأدلة على أنه لم يجد فى كل ما قرأه عن المراغى أنه كان يخاطب فاروق بلقب أمير المؤمنين، وأن المراغى كان ينصح فاروق دائما بمختلف الطرق بأن يلتزم بواجباته كحاكم وبالقيام بمسئولياته الوطنية والدينية تجاه شعبه. دروسه التى يربط فيما بين نصوص القرآن وأحكام الشريعة وبين واقع المجتمع وأحوال الناس. وفى هذه الفترة كان فاروق ملكا صالحا، وكانت شعبيته كبيرة، ولم يبدأ فساده إلا بعد وفاة الشيخ المراغى. ومعروف?أن الشيخ المراغى اصطدم بالملك فاروق عندما أراد أن يطلق زوجته الملكة فريدة، وطلب منه أن تصدر فتوى تحرم على فريدة أن تتزوج بعد طلاقها برجل آخر، ورفض الشيخ المراغى أن يصدر هذه الفتوى وقال للملك عبارته المشهورة: (الطلاق لا أرضه، والتحريم لا أملكه) ولما اشتد ضغط الملك عليه وغضبه صاح فيه: إن المراغى لا يستطيع أن يحرم ما أحل الله.. ومن مواقفه التى لا تنسى أنه وهو على منبر الأزهر فى خطبة الجمعة وفى حضور الملك فاروق والأمراء والوزراء، قال إذا انصرف أمراؤنا إلى الترف، ووزراؤنا وكبراؤنا إلى التمتع بالحياة وزينتها بدل? من أن يعملوا الأعمال الصالحة لأنفسهم ولبنى وطنهم وللناس.. إذا حصل ذلك فلا ننتظر إلا مقتا.
خصوم الشيخ المراغى السياسيون والأزهريون كانوا يتربصون به ويحيكون حوله الشائعات بأنه كان صديقا للانجليز وهم قوة احتلال فى مصر، والحقيقة هى التى ذكرها الأديب الكبير أحمد حسن الزيات بعد وفاة المراغى وهى أنه كانت له رسالة أخذت عليه فكره وقلبه وهى أن يطبق فى الأزهر أساليب الإدارة الحديثة التى يطبقها الانجليز وفى نفس الوقت فإنه يحارب الاحتلال الانجليزى ويشارك فى العمل الوطنى.
لكن ومن الواضح أنه كان يفرق برقة بين الشعب البريطانى وأساليب الإدارة البريطانية المتقدمة، وبين الاحتلال البريطانى وسياساته القمعية فى مصر. وهو يقدر الثقافة والإدارة والنظام والدقة فى بريطانيا ويسعى إلى الاستفادة منها تطبيقا لمبدا أعرف عدوك واستفد منه، والسجلات تشهد بأنه كان يعارض سلطات الاحتلال أشد المعارضة منذ البداية عندما اندلعت ثورة 1919 وكان هو «قاضى القضاة» فى السودان ومع ذلك لم يتردد فى إعلان تأييده للثورة وقام بنفسه بجمع التبرعات من المصريين العاملين فى السودان لمساعدة الثوار الشهداء فى مصر مما أثار غض? الحاكم العام الانجليزى فى السودان واعتبره معاديا لبريطانيا. واختار المراغى أن يستقيل من هذا المنصب الكبير ويستمر فى مناصرته لسعد زغلول وأصحابه ليكونوا وكلاء الأمة، وفكر الحاكم السودانى فى اعتقاله، لكنه خشى من رد الفعل الغاضب واقترح السكرتير القضائى الانجليزى منحه إجازة مفتوحة، ولكنه فضل أن يستقيل ويعود إلى مصر.. فهل يصح أن يقال إنه كان قريبا من الانجليز؟!
معارض للملك على المنبر
موقف آخر من مواقف الشيخ المراغى المشهورة موقفه وهو على المنبر أثناء الحرب العالمية الثانية يوم الجمعة 19 سبتمبر 1941 وكان الملك فاروق حاضرا ومعه رئيس الورزاء حسين سرى باشا، وكان البريطانيون يطلبون من الملك والحكومة إعلان الحرب رسميا على المانيا واليابان والانضمام إلى بريطانيا والحلفاء، وكان اتجاه الملك والحكومة الخضوع لإدارة سلطة الاحتلال، ولكن الشيخ المراغى عارض ذلك فى خطبته. وقال قولته المشهورة التى ذاعت وانتشرت على كل لسان: إن هذه الحرب لاناقة لنا فيها ولا جمل. وحاول رئيس الوزراء اقناع المراغى بإصدار تص?يح ينفى أو يخفف من هذا الموقف لكنه رفض وأبدى استعداده للاستقالة. وعلقت صحيفة التايمز البريطانية على موقف شيخ الأزهر فقالت: إن هذا الرجل أخطر على بلادنا من كل ويلات الحرب.
هذه بعض ملامح من سيرة وشخصية الشيخ المراغى. وبالتأكيد فإن كاتبنا الكبير الراحل رجاء النقاش كان على حق عندما قال إن المراغى نموذج رائد ينبغى أن نعرفه ونفهمه ونجعل منه مصباحا يضىء لنا طريقنا ويكشف لنا كيف يرتبط الدين الصحيح بالحياة، وكيف يعمل على سعادة الناس وتطور المجتمع.
وبالنسبة لى دُهشت عندما عرفت -ولم أكن أعرف- أن زوجة الإمام محمد عبده كانت تعانى فى شيخوختها ضيقًا ماليًا شديدًا ولم يتقدم لمساعدتها وترتيب معاشها إلا الشيخ المراغى.. من يصدق أن أرملة محمد عبده الذى قاد الفكر الاصلاحى المستنير وتحملت النفى بسبب دوره الوطنى لم تجد رعاية من الدولة وهى أرملة واحد من أعظم صناع التاريخ الدينى الذين أنجبتهم مصر؟
وتكفى شهادة العالم السورى الكبير محمد كرد التى يقول فيها إن (الملك- والإنجليز) طلبوا إلى المراغى أن ينضم إلى جبهة سياسية معينة ويكون له ولأولاده وذوو قرابته ما يشاء فأبى، وقال: إن أولادى وأخوتى فى نظرى أقل من أن أبيع لهم كرامتى.
وشهادة أخرى على سعة أفقه وفهمه الدقيق لمقاصد الشريعة قوله: قدموا لى ما يفيد الناس وأنا آتيكم بسند له فى الشريعة الإسلامية.. فالشريعة جاءت لمصلحة الناس وليس للتضييق عليهم.. وهكذا كان رائدًا فى الاجتهاد، واقتحم مجالات لم يجرؤ من سبقوه على الافتاء فيها.. وهذا حديث آخر.