اعتقالات سرية فى أمريكا

ليس من السهل أن نصدق ماتنشره الصحف الأمريكية عما يجري في الولايات المتحدة من انتهاكات للقيم الأمريكية التي تعلن أنها تحارب من أجل نشرها في العالم خاصة الديمقراطية‏,‏ وحقوق الانسان‏,‏ واحترام القانون‏,‏ والتسامح‏,‏ والمساواة‏..‏ إلي آخر قائمة القيم التي يرددها المسئولون الكبار في الادارة الأمريكية‏.‏

ليس من السهل أن نصدق مثلا مانشرته أشهر الصحف الأمريكية وهي صحيفة هيرالد تريبيون في افتتاحيتها يوم‏15‏ يناير الحالي تحت عنوان اعتقالات أمريكية سرية واشارت فيها إلي ماقررته المحكمة العليا الأمريكية بالسماح للحكومة باحتجاز من تري من الاشخاص الذين تشتبه فيهم دون الإفصاح عن اسمائهم أو أسباب اعتقالهم‏,‏ وبناء علي هذه القاعدة التي لامثيل لها إلا في الدول التي تتهمها أمريكا بأنها دول تحكمها أنظمة دكتاتورية‏,‏ فقد رفضت المحكمة العليا الاستئناف في حكم ابتدائي يلزم الحكومة باعلان أسماء مئات المعتقلين‏,‏ وعلقت الصحيفة بقولها‏:‏ إن ذلك يتناقض مع حرية الأمريكيين‏,‏ خاصة أن الحكومة اعتقلت أكثر من ألف شخص معظمهم مسلمون‏,‏ وثبت أن معظمهم ليست لهم علاقة بالارهاب أو بأية جريمة‏,‏ كما قامت الحكومة بترحيل اعداد كبيرة من المهاجرين‏,‏ وأخيرا أعلنت أسماء‏129‏ من هؤلاء المعتقلين ومازالت ترفض الكشف عن هوية المئات الذين لم توجه إليهم أية تهمة رغم بقائهم في المعتقلات لأكثر من عامين‏!‏


وفي الفترة الأخيرة تحرك مركز دراسات الأمن القومي مع عدد من المراكز والجمعيات المهتمة بحقوق الانسان في الولايات المتحدة‏,‏ وقدموا التماسا بطلب لمعرفة أسماء المعتقلين وظروف ومكان اعتقالهم‏,‏ معتمدين في ذلك علي قانون حرية المعلومات الذي يلزم جميع الجهات بموافاة من يطلب بالمعلومات الكاملة عما يطلبه‏,‏ علي أساس أن المجتمع الأمريكي مجتمع الديمقراطية والشفافية‏,‏ ويرفض المناورات والمؤامرات الحكومية عن طريق إخفاء المعلومات أو إخفاء جزء من الحقيقة‏..‏ ولكن الحكومة رفضت تقديم هذه المعلومات‏,‏ وحين عرضت هذه المنظمات الأمر علي القضاء أصدرت الحكومة قانونا باسم قانون سرية المعلومات يعطيها الحق في عدم اعلان اسماء من تعتقلهم أو الكشف عن أسباب اعتقالهم‏,‏ ومع ذلك استمرت هذه المنظمات تساندها دار نيويورك تايمز الصحفية في اللجوء إلي الدرجة الأعلي في سلم القضاء الأمريكي‏,‏ وقالوا إن قانون سرية المعلومات ربما يكون مبررا في الحالات التي تمس أمن الدولة‏,‏ لكن الحكومة تتوسع في استخدام هذا القانون حتي في الجرائم العادية وحتي في تحقيقات البوليس‏,‏ وقالوا أمام المحكمة العليا إن الشعب من حقه معرفة ومراقبة أعمال الحكومة خاصة فيما يتعلق بأمور الحريات‏,‏ واهدار هذا الحق هو اهدار للحقوق الدستورية في أمريكا‏!‏ وبناء علي هذا الدفاع أصدرت المحكمة الجنائية حكمها بإلزام وزارة العدل بإعلان اسماء المعتقلين‏,‏ ولكن محكمة الاستئناف العليا أخذت بموقف الحكومة وأيدت حقها في الاحتفاظ باسباب ومكان اعتقال من تري السلطات اعتقالهم‏,‏ وقد علق القاضي ديفيد تاتيل علي هذا الحكم بقوله‏:‏ إن المحكمة بذلك المبدأ تعتدي علي مصالح عليا‏,‏ هي مصلحة الشعب الامريكي في معرفة ما اذا كان الاعتقال قد تم لأسباب كافية أم أنه يدخل في باب التعسف في استعمال السلطة والاعتداء علي الحريات‏,‏ أم أن الاعتقال تم فقط بسبب انتماء المعتقلين لدين معين‏,‏ أو جنسية معينة‏,‏ دون معرفة مدة الاعتقال وإلي أي حد امتدت هذه الفترة دون توجيه تهمة محددة ودون السماح للمعتقلين بمقابلة أي محام رغم أن القانون الأمريكي يلزم المحقق بإبلاغ المتهم بحقه في الاستعانة بمحام أثناء التحقيق‏..‏ وقالت الصحف الأمريكية تعليقا علي هذا المبدأ القانوني غير المسبوق في القضاء الأمريكي إنه انعكاس لسياسة الإدارة الحالية التي تتمسك بحقها في عدم الإعلان عن أسباب تصرفاتها‏,‏ والآن أمام المحكمة العليا أن تنظر في قضية أخري أكثر أهمية تتعلق بالحريات المدنية في الولايات المتحدة بعد‏11‏ سبتمبر‏,‏ وقد حددت المحكمة العليا موعدا لسماع دعوي مواطن أمريكي مسلم معتقل تحت بند عدو مقاتل كما حكمت بقبول استئناف‏16‏ من الأجانب المعتقلين في جوانتانامو‏,‏ وتنتظر الدوائر القضائية والقانونية ومنظمات حقوق الانسان والدفاع عن الديمقراطية والحريات ماستحكم به المحكمة‏..‏ هل تقر موت القيم الديمقراطية أم تتصدي لكبح جماح الادارة الحالية التي أصبحت تجاوزاتها المزعجة نكسة للحرية وسببا للقلق حتي وإن قالت إن كل هذه التجاوزات من لوازم الحرب علي الإرهاب؟‏!


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف