هيكل .. شباب الروح وحكمة الشيوخ (2 - 3)

الأستاذ محمد حسنين هيكل ظاهرة غير مسبوقة فى الصحافة والسياسة، فلم يحدث أن اقترب صحفى من رئيس الدولة إلى درجة يمكن معها اعتباره شريكا فى الحكم فى فترة رئاسة عبد الناصر من بدايتها إلى نهايتها.
كان على مكتب هيكل تليفون ساخن يتصل من خلاله بالرئيس عبد الناصر، وكان هو الوحيد المسموح له به بالاتصال بالرئيس فى أى وقت من الليل أو النهار، وكانت التقارير التى تتعلق بالسياسة العليا للدولة ترسل نسخة منها إلى هيكل، ويكفى النظر إلى صور اللقاءات والمباحثات الرسمية التى كان يجريها عبد الناصر مع رؤساء الدول والوفود الرسمية لتجد هيكل فى كل اجتماع حتى فى مباحثات موسكو لبحث السلاح اللازم لمصر استعدادا للحرب، كان هيكل مشاركا فيها، ولم تكن مشاركته كصحفى يتابع الأخبار ولكن كانت مشاركة بالرأى ومشاركة فى القرار فى بعض الأحيان، ومع ذلك كان رافضا لكل منصب حكومى يعرضه عليه عبد الناصر.. والسادات بعد ذلك - ويكتفى بمكانة الصحفى، ويعلن أنه لا يقبل منصبا يبعده عن الصحافة. حتى إنه رفض تنفيذ القرار الذى أصدره عبد الناصر بتعيينه وزيرا للإعلام، ووصل الأمر إلى حد مقاطعته لعبد الناصر واعتكافه فى مسكنه الريفى فى برقاش، لولا أن زاره أنور السادات لإقناعه بقبول المنصب لأن عبد الناصر يحتاج إلى فكره فى تطوير الإعلام وتنفيذ ما اقترحه من إنشاء اتحاد الإذاعة والتليفزيون لإدارة التليفزيون والإذاعة مستقلا عن الحكومة وفقا لنموذج الإذاعة البريطانية (BBC)، وهذا ما جعل هيكل يقبل المنصب فيعين د. مصطفى خليل رئيسا لاتحاد الإذاعة والتليفزيون بعد صدور قانون باستقلال هذا الاتحاد عن وزير الإعلام، واختار د. أسامة الباز (السفير بالخارجية فى ذلك الوقت) مستشارا للوزير، ورفض دخول مكتب وزير الإعلام، وظل يعمل كوزير للإعلام من مكتبه بالأهرام، وكانت هذه حالة فريدة، وزير الإعلام ورئيس تحرير الأهرام (إحدى أكبر عشر صحف فى العالم) ولا يحصل إلا على راتبه من الأهرام.. خمسة آلاف جنيه فى السنة وفقا لقانون الحد الأقصى للأجور فى ذلك الوقت.
***
هذا ما جعل الكثيرين يقولون إن ما وصل إليه هيكل فى الصحافة كان بسبب وجوده الدائم إلى جانب عبد الناصر، حتى أن الأستاذ أنيس منصور كتب يوما إن هيكل لا هو عبقرى ولا حاجة، فقد أتاح له القرب من عبد الناصر الفرصة ليضع يده فى جيب عبد الناصر ليحصل على أخبار الدولة بسهولة، ومعلوم أن هيكل كان رئيس تحرير آخر ساعة وألمع نجوم أخبار اليوم قبل قيام الثورة، وكانت له علاقات واسعة مع دوائر الحكم ومع عدد من ضباط الثورة (عبد الناصر ومحمد نجيب وآخرين) وكان ليلة الثورة فى مقر قيادة القوات المسلحة مع قادة الثورة وكان يدخل ويخرج على عبد الناصر وهو يصدر التعليمات إلى الوحدات ويدرس الخطوات اللازمة لنجاح الثورة مع زملائه الذين أصبحوا مجلس قيادة الثورة بعد ذلك، هيكل شارك فى الوفد الرسمى فى مباحثات الجلاء مع الوفود الرسمية البريطانية سنة 1954، وشارك فى مباحثات الوحدة مع سوريا عندما جاء الرئيس السورى شكرى القوتلى والقيادات العسكرية والسياسية مصممين على إتمام الوحدة الآن وفورًا، وكان إلى جانب عبد الناصر أثناء زيارته المشهورة إلى سوريا التى حملت الجماهير السورية سيارة عبد الناصر أثناءها، وشارك أيضًا فى اللحظات الحرجة للانفصال، وشارك فى الأيام الصعبة التى أعقبت نكسة 1967 وكتب خطاب التنحى الذى أعلن فيه عبد الناصر تخليه عن جميع مناصبه السياسية والعسكرية وتحمله مسئولية النكسة، وكتب مواثيق كتاب «فلسفة الثورة و«الميثاق الوطنى» و«بيان 30 مارس»، وكتب كل خطب عبد الناصر،ومازلت مندهشا من قدرته على قضاء أوقات طويلة مع عبد الناصر (فى زيارات خارجية ولقاءات رسمية فى الداخل ومشاورات خاصة ثنائية بينهما ومحادثات تليفونية تمتد بالساعات كانت فى الحقيقة نوعا من الحوار والتفكير بصوت عال بين الرجلين) وبين مسئوليته عن الأهرام، وقد شاهدت كيف كان يتابع كل صغيرة وكبيرة على الرغم من اعتماده على قيادات نادرة فى الصحافة والإدارة ومنحها صلاحيات واسعة، ولكن عينه لم تغفل عن الإدارة والتحرير لحظة، ودهشتى أكبر عندما أفكر كيف كان يتابع إنشاء مبنى الأهرام لحظة بلحظة منذ كانت فكرة وحلما إلى أن اختار المهندس العبقرى السيد ياسين ليكون مسئولا عن المشروع وأرسله إلى اليابان ليشاهد أحدث مبنى صحفى فى العالم لصحيفة «أساهى» اليابانية، وعودته بأفكار جديدة جعلت مبنى الأهرام وصالة التحرير بالذات من المبانى الصحفية المعدودة فى العالم.
***
هيكل رجل كبير، لذلك أحاط نفسه بالكبار، وساعد من رأى فيهم موهبة من الصغار فصاروا كبارا، ولذلك ينطبق عليه قول أستاذ الصحافة الأمريكى «روبرت براون»:(كل جريدة هى ظل رجل واحد احاط نفسه برجال ذوى صفات مثل صفاته).
***
ومع كل ذلك كانت هناك خلافات بين هيكل وعبد الناصر، ولكنها كانت خلافات فى التفاصيل كما يقول، ومع أن الشائع أن هيكل كان يحتمى دائمًا بمظلة عبد الناصر فإن ذلك لم يكن صحيحا دائمًا، فقد تعرض لمضايقات ومؤامرات كثيرة وهو إلى جانب عبد الناصر، منها مثلا ما حدث بعد كتابته مقالا فى عام 1968 من ضرورة التغيير قال فيه: إن النظام - نظام عبد الناصر - إما أن يغير أو يتغير! وغضب عبد الناصر من هذا المقال، وكتب مرة (حتى تسكت الصحف عن النفاق للوزراء) وفى عدد يوم 18 يوليو 1971 كتبت مجلة نيوزويك الأمريكية - أشهر المجلات العالمية - تقول: إن هيكل يكتب مقالات تهاجم البوليس السرى فى مصر وتهاجم بعض القيادات فى الحكم والعمل السياسى ويهاجم المنظمات الفلسطينية لأنها تفرغت للمعارك الكلامية بدلا من معاركها الحقيقية.
فى أهرام 17 نوفمبر 1967 كتب هيكل: إن أجهزة المخابرات إذا تركت وشأنها بغير رقابة كافية تكتسب فى نموها طبيعة سرطانية مدمرة.. وفى 10 نوفمبر 1967 كتب: لقد تيقنت الأمة العربية أنه ليس بالشعارات تتحقق أمانى الشعوب.. وفى أهرام 28 يوليو 1967 هاجم عمليات الاعتقال بدون قرار النيابة وحكم من القضاء، وفى 20 ديسمبر 1967 كتب يهاجم الخلط بين العمل السياسى والعمل التنفيذى وغياب الفصل بين السلطات، وهاجم البيروقراطية التى ترى أن «النقد البناء» هو التصفيق لكل تصرف، وأن «النقد الهدام» هو نقد أى تصرف.
وفى وقت عبد الناصر حاول على صبرى الأمين العام للاتحاد الاشتراكى الإيقاع بينه وبين عبد الناصر فأحاله إلى التحقيق السياسى أمام اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى برئاسته، وتفاصيل هذا التحقيق نشرها هيكل فى كتابه «بين الصحافة والسياسة».
ومنذ البداية كان لهيكل موقفه الخاص مع عبد الناصر.. صديق قريب جدًا ولكن دون أن يفقد استقلاله وحقه فى إبداء آرائه الخاصة بصراحة، فهو يؤيد ويعترض، يوافق ويختلف، وحين فكر عبد الناصر فى إصدار جريدة الجمهورية لتكون لسان الثورة طلب من هيكل أن يتولى الإشراف عليها فاعتذر وقال لعبد الناصر: إن الفارق بين «الثورة» و«الحكومة» ضائع، ولذلك لن تكون هذه الصحيفة معبرة عن «الثورة» ولكنها ستكون معبرة عن «الحكومة»، والثورة لا تحتاج إلى صحيفة تعبر عنها لأن كل الصحف تفعل ذلك، وفى بيروت صدر فى عام 1968 كتاب بعنوان «وثائق النكسة» عن دار الكاتب العربى قال فى مقدمته الكاتب اللبنانى الكبير قدرى قلعجى: أول من شق طريق الاعترافات وفتح باب النقد الذاتى على مصراعيه هو الأستاذ محمد حسنين هيكل، وقالت مجلة الحوادث اللبنانية أشهر المجلات اللبنانية فى عددها 25 أغسطس 1970: بقدر ما كانت علاقة هيكل بعبد الناصر سببا فى تقدمه وارتفاع مكانته، فقد جعلته أمام كثيروين مسئولا عن كل أخطاء السياسة، ولم يعد البعض يسأله عما قاله، بل أصبح يسأله عما لم يقله، وأصبح الكثيرين يحملون السطور التى يكتبها بأكثر مما تحتمل، ويبحثون عما وراء السطور، وهذا هو السبب لما تعرض له هيكل كثيرا من سوء الفهم.. ومازلت أذكر ما قاله لى د. صلاح مخيمر أستاذ علم النفس: إن هيكل كان صحفيا للسلطة فأصبح سلطة بالنسبة للصحافة.. وأعتقد أن هذا أفضل ما يقال عنه فى مناسبة بلوغه التسعين من عمره المديد بإذن الله.
ولا يزال النهر يتدفق

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف