أيام» سوزان طه حسين (1-2)
كما سجل طه حسين الذاتية فى كتابه «الأيام» كذلك فعلت زوجته فى كتابها «معك» ومن يقرأ مذكراتها ورسائله إليها يدرك أن عبقرية طه حسين هى التى صنعت مجده الأدبى إنما وصل إلى ماوصل إليه بفضل هذه السيدة التى كانت شريكة له فى كل ما حققه، ولولاها لما كان طه حسين قد بلغ القمة التى تربع عليها، ولما كان اسمه وكتبه وإنجازاته بهذا الحجم الذى لم يتحقق لأحد قبله ولا لأحد بعده فى العالم العربى حتى اليوم.
كان من الممكن أن يتعثر طه حسين فى دراسته للدكتوراه فى فرنسا لأنه ضرير لايستطيع أن يقرأ أو يكتب بدون مساعدة وقد عبر هو بنفسه عن ذلك فقال «إننى مستطيع بغيرى» ولم يكن من السهل أن يجد بنفسه الصبر والدافع ليظل يقرأ ويكتب له لساعات طويلة جدًا إذا لم يكن يحبه حبا حقيقيًا ويريد أن يصنع معه هذه الأسطورة التى تحققت
كانت زوجته سوزان هى التى فعلت ذلك وهى مدركة بأنها معه تكتب قصته بنجاح عظيم، وقد عبرت عن ذلك فى رسالة لوالدتها قالت فيها: «إننا نصنع فيما وراء مشاغلنا اليومية أشياء ستبقى ولن يستطيع أحد أن يعوضها».
كان القدر يرسم لطه حسين طريقه الذى بدأ بلقاء سوزان الشابة الفرنسية الطموحة شديدة الذكاء الطالبة فى السوربون، وكان فى الجامعة أعمى آخر هو الأستاذ الذى يدرس اللغة اللاتينية، وكانت سوزان ترافق طه حسين لحضور دروسه، وفى يوم قال الأستاذ لتلميذه: «هذه الفتاة ستكون زوجتك» وكأن هذه الكلمات فجرت المشاعر التى كان يخفيها طه حسين ويخشى أن يبوح بها لما بينهما من فوارق.. لكنه تجرأ وصارحها بحبه لها، وتحققت نبوءة الأستاذ الفرنسى الأعمى وصارت سوزان زوجته التى ظلت تعمل معه وتهيىء له الأجواء التى تمكنه من الاطلاع والتفكير وتأليف أكثر من خمسين كتابا من ذخائر الأدب العربى، وعدد لايحصى من المقالات فى العديد من الصحف والمحاضرات فى العديد من المناسبات والبلاد، وأعتقد أن شهادات الدكتوراه الفخرية والنياشين واحتفالات التكريم لطه حسين كانت زوجته العظيمة مستحقة لنصبها منها، وفى معاركه الأدبية والسياسية كانت دائمًا إلى جانبه تشاركه الانتصارات والهزائم.
***
قصة سوزان وطه حسين من قصص الحب النادرة، فقد كانا معا طول الوقت.. يقرآن معا،ويسافران معا، ويحضران الحفلات والمناسبات الثقافية معا، ولم يكن يطيق فراقها إذا غابت عنه فى سفر لعدة أيام وكان أطول غياب استمر ثلاثة أشهر قضتها فى فرنسا لمعالجة ابنها مؤنس، وخلال هذه الشهور الثلاثة كتب لها 90 رسالة، وظلت شعلة الحب فى قلبه حتى آخر لحظة! حتى أنه كتب لها وعمره 65 عامًا:«تعالى إلى ذراعى، وضعى رأسك على كتفى، ودعى قلبك يصغى إلى قلبى».. وفى هذه الرسائل نكتشف أن طه حسين كان يحب هذه السيدة حبا من نوع نادر يذكرنا بأبطال القصص الرومانسية الشهيرة، وبعد رحيله عادت سوزان إلى هذه الرسائل وأعادة اكتشاف هذه المشاعر الفياضة فكتبت فى مذكراتها: « هل من الممكن أننى كنت محبوبة على هذا النحو، وأننى كنت المقصودة بكل هذا السيل من الحنان والعاطفة وهذا القدر من الحب الذى كان على أن أحمله وحدى، وما أكثر ما كنت أخاف من ألا أتمكن من مقابلته بما يستحق». وقالت إنها اكتشفت أن الحب العفوى أرفع تعبير عن الحنان الإنسانى. وكتبت أيضا: هناك الكثير من الثروات التى حملتها لى السنوت التى عشتها مع طه، وبعد رحيله أشعر أنى منتزعة نهائيا ليس من كل مايخصنى وإنما أنا منتزعة من كل مايخصنا معا.. أنى ذهب ذلك الحبل السرى الذى ربطنا إلى بعضنا.. لقد كان يحدث له بسبب الإرهاق ألا يحدثنى بعد أيام حافلة من العمل ومع ذلك كنا نقول لبعضنا كل شىء.. كل مايمكن للنفس البشرية أن تقوله.
***
عاشت سوزان أيامها بعد رحيل طه حسين تعانى من الوحدة والغربة حتى عندما كانت تسافر وتلتقى بمن بقى من أسرتها وأصدقائها، وتعود إلى مصر لتعيش مع الذكريات فى البيت الذى تلمس فى كل ركن فيه أثرا من آثاره.. وتتذكر «الوجه الذى أحببته وكنت أنظر إليه طويلا، فى أحيان كانت الدموع تغمره وكان ذلك أمرا لايطاق.. كانت لحظات قاسية حتى أن قلبى يتحطم كلما تذكرتها».. وتعبر عن شعورها بالفراغ بعده فتكتب:«يداى تبدوان لى الآن بلا فائدة، فأغرق فى اليأس.. أريد أن أرى ابتسامتك المتحفظة.. الرائعة»! وتقول: «كانت الأشياء الصغيرة.. الأشياء المتواضعة تمنحنا الفرح وفى الأيام الأخيرة لم يكن قد بقى لنا منها الكثير» وتتذكر عندما فصل طه حسين من الجماعة ومرت عليها أيام وهما مفلسان ومع ذلك قاما بمغامرة بشراء جرامافون لكى يستمعا إلى الموسيقى(!) وتخاطبه وهى غارقة فى بحر الذكريـات عندما كنت تحمل لى واحدا من كتبك صدر أخيرًا كانت تقلقنى الحركة التى كنت تمد لى بها يدك بالكتاب.. كانت حركة مرتبكة كما لو كنت تعتذر.. وكأنك كنت تقم لى شيئاً ضئيلاً جدا فى حين أنك كنت تمنحنى أفضل مالديك وما كان الآخرون ينتظرونه.. ماأكثر تواضعك.. وماأكثر ما أحببتك ولم أعرف كيف أعبر لك عن هذا الحب».
***
ومن المدهش أن تكتب زوجة وهى فى الثمانين من عمرها عن حالتها بعد رحيل زوجها ماكتبته سوزان طه حسين: «كل شىء يزعزنى.. كل شىء يختلط، يتشابه، ينتزعنى من الحاضر، أنا ضعيفة إلى هذا الحد، أنا عاجزة عن مواجهة الفراغ والأيام الخوالى، لقد كنت أنت صلابتى.. إننى ألهث.. إننى أتنفس بعمق.. أريد أن أتخلص من الضيق الذى يصيبنى بالشكل.. ومع توترى أتطلع إلى مايستحيل الوصول إليه.. تعالى.. فأنا الآن ضعيفة.. وأنا على نهاية الطريق الطويل الذى سرنا فيه معا وحدنا.. أحملك فىّ.. أحبك.. لن أقول لك أبدًا وداعا.. فأنا أملكك وسأملكك دائمًا». هذه الكلمات الشاعرية تكشف عن رقة هذه السيدة ووفائها النادر وارتباطها به إلى درجة التوحد.
***
بعد رحيله حاولت أن تخرج من جو الاكتئاب الذى تعانى منه فذهبت إلى القرية الإيطالية التى كانا يقضيان فيها إجازة الصيف،وأرادت أن تقف فى الأماكن التى كانت مفضلة لديه وهناك كانت تشعر أنه يقف معها أمام البحيرة التى كان يحب الاستماع إلى أناشيد الطيور عندها وقت الغروب، وفى الليل تفتح الراديو لتستمع إلى موسيقى كما كان يفعل ليستمع إلى سيمفونية فاوست وألحان فرانز ليست وسيمفونية براج.. وذهبت إلى كل مكان كانا يذهبان إليه، وتمشى فى كل طريق كانا يمشيان فيه، وكانت تبكى بشدة، وتعبر عن هذه اللحظات بأنها كانت تشعر بأنها وحيدة تماما.. وأن هذا العالم لم يعد فيه مكان لها.. وتتذكر عباراته التى كتبها لها يومًا: « لسنا معتادين على أن يتألم أحدنا بمعزل عن الآخر».
وفى الفندق الذى اعتادا الإقامة فيه وجدت مديرة الفندق قد وضعت صورته عند المدخل وبجانبها وردة رقيقة.. وفى الليل كتبت فى مذكراتها: «لو أننى استطعت لجعلت من نفسى خيالا لايمكن رؤيته.. وفى الصمت أتجه نحوك بكل قواى.. كل مابقى منى هو لك».
من كان يعرف.. ومن كان يصدق.. أن كل هذه المشاعر كانت تملأ حياة وقلب طه وسوزان؟!