هيكل: شباب الروح وحكمة الشيوخ [1 -3]

يوم 23 سبتمبر الماضى كان مناسبة خاصة للصحافة والصحفيين، لأنه اليوم الذى احتفل فيه الأستاذ محمد حسنين هيكل بعيد ميلاده التسعين واحتفلت معه الصحافة المصرية والعربية.. وعلى مدى السنين قيل عن هيكل الكثير.. قيل إنه أسطورة الصحافة العربية.. وقيل إنه المؤسس لمدرسة الصحافة العربية الحديثة.. وقيل إنه «ظاهرة» أكثر من كونه «صحفى» والحقيقة أن هيكل «إنسان» بمعنى الكلمة، وهو إنسان على درجة عالية من الرقى والتحضر، يعيش عصره، ويتابع كل ما يجرى فيه، ولديه من التجارب والخبرات ما لا ينافسه فيها أحد. هو صحفى.. ومفكر.. وسياسى.. وصاحب رؤية استراتيجية.. يجمع بين الوعى بالماضى والتاريخ، وبين الحاضر فى حركته وتطوراته، ويمتد ببصره دائما إلى المستقبل.. يجمع بين روح الشباب وحكمة الشيوخ.. عندما يتكلم يفئ بأفكاره العقول ويجعلنا نرى ما لم نكن نراه وندرك ما لم ندركه.. هل هى البصيرة ؟ هل هى العبقرية؟.. هل هى المنحة الإلهية التى تجعل من الإنسان أسطورة يخلدها الزمان؟
هيكل نموذج تاريخى لصلابة وحكمة المصريين. لم تنل منه السنون كثيرا فهو -فى التسعين- كما كان دائما.. حاد الذهن.. متوقد الذكاء.. حاضر الذاكرة.. قوى الملاحظة.. بعيد النظر.. قادر على
أن يجمع الأحداث ويربط بينها برباط منطقى ويستخلص منها المعنى ويشير دائما إلى الطريق الصحيح.. فى كل موقف اختلف فيه مع الآخرين أثبتت الأيام أنه كان على صواب.. وأنه مثل الشاعر العربى القديم طرافة بن العبد الذى نصح قومه عند منعطف الطريق عندما اجتمعوا فلم يكتشفوا أنه كان على صواب إلا بعد أن وقعت الواقعة فقال شعرا يذكرهم بما كان عند هذا المنعطف الذى يسمى «منعطف اللوى»:
نصحتكـــــــمو بمنعطــــــف اللـــوى
فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد
هو بين الصحفيين والكتاب لا مثيل له ليس فى مصر أو فى العالم العربى بل فى العالم وعلى مدى تاريخ الصحافة ومع ذلك فإنه - بتواضع شديد يقول إنه تتلمذ على يد محمد التابعى ويعتبره مؤسس الصحافة الحديثة فى مصر. والحقيقة أنه متقدم على التابعى بمسافة كبيرة جدًا لا تنقص من قدر التابعى ولكنها تعلى من قدر هيكل، فهو صاحب تجربة فى العمل الصحفى فى ميادين القتال الكبرى ولم يكن لدى التابعى هذه الفرص، وهو صاحب تجربة نادرة فى السياسة بعلاقته الخاصة بالرئيس جمال عبد الناصر التى جعلته صديقا ومشاركا فى داخل المطبخ السياسى فى القمة ولم تكن لدى التابعى مثل هذه الفرصة، وهو دارس متعمق للعلوم السياسية والاستراتيجية إلى الدرجة التى جعلته يتفوق فيها على كبار الخبراء والمتخصصين فى هذه العلوم ولم يكن التابعى كذلك.. وراء كتاباته عمق ثقافى ومعرفى هو ما يجعله قادرا على تحليل الظواهر السياسية والاجتماعية تدل على أنه يرى ما لا يراه الآخرون.
وهو تجسيد حى كمفهوم «القوة» بأعلى درجات يكمن أن يصل إليها إنسان.. قوة الشخصية.. وقوة التحمل فى المواقف الصعبة.. وقوة الإرادة.. هذه «القوة» الداخلية هى التى جعلته يواجه الكثير من المشاكل والتحديات فى كل العصور تقريبا.. حتى فى عصره الذهبى أيام عبد الناصر وكان أقرب الناس إلى الزعيم ومع ذلك أحيل إلى التحقيق والمحاكمة أمام اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكى وكانت «هيئة المحاكمة» برئاسة على صبرى الأمين العام للاتحاد الاشتراكى، واستمرت ساعات فى استجوابه ومحاولة الايقاع به لكنه خرج منها أكثر قوة وأكثر قربا من عبد الناصر، وكان الهدف الإطاحة به وإيجاد الوقيعة بينه وبين الزعيم.
وبسبب مواقفه السياسية وجرأته فى كتاباته وتحليلاته تعرض للاغتيال وأطلقت عليه رصاصات وهو واقف أمام باب الأهرام فى انتظار سيارته.. وفى عهد السادات كان الداعم لحكمه ووقف إلى جانبه فى معركته مع مراكز القوة، وساهم بنصيب معروف فى الإعداد لحرب أكتوبر وهو الذى كتب الأمر الاستراتيجى من الرئيس السادات إلى القوات المسلحة بتحديد المهمة وتكليف القوات المسلحة بادائها، وبعد ذلك أحاله السادات إلى المدعى الاشتراكى الذى أجرى معه تحقيقا مطولا نشر هيكل تفاصيله فى كتاب كامل وكان ذلك عندما وجد هيكل نفسه أمام مفترق طرق وأنه لا يستطيع -وفق ما يرى ويعتقد- أن يساير السادات فى التحول السياسى المتعجل الذى ضيع فرصا مفيدة للبلد فى رأيه ووصل الأمر إلى أن أمر السادات باعتقاله فى حملة اعتقالات سبتمبر الشهيرة التى شملت جميع الرموز والقيادات الوطنية والسياسية والدينية، وخرج هيكل فى النهاية مرفوع الرأس ليسجل تجربته فى عدة كتب ترجمت إلى أكثر من ثمانين لغة.
ولأن لديه قدرة عجيبة على تنظيم أوراقه وملفاته فهو يحتفظ بكل ورقة كبيرة أو صغيرة، مهمة أو تبدو غير مهمة فى حينها، ويعرف جيدا كيف يوظفها بعد ذلك فى سياقها، وحتى المكالمات التليفونية مع عبد الناصر والسادات سجل ملخصا لكل منها وتاريخها وساعتها، ولذلك فهو لا يكتب عن واقعة إلا ولديه عليها وثيقة تؤكدها أو كان لديه من بين الأحياء شاهد على صحتها، وكل واقعة ليس لها دليل موثق أو شاهد حى فإنه يترفع عن ذكرها.
حين تدخل مكتبه الأنيق المطل على النيل تجد رفا عليه 16 كتابا من تأليف محمد حسنين هيكل معظمها ترجمت إلى لغات عدة.. يضعها أمامه ليذكر نفسه بأن هذه الكتب هى «الهرم» الذى بناه بروح المصريين البناءة لتخلد اسمه بين عباقرة هذا الزمان.
ولا يزال النهر يتدفق

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف