فى ذكرى صاحب «فقه السنة»

المصادفة وحدها هى التى جعلتنى أتعرف على الشيخ سيد سابق، كنت فى بداية عملى فى الأهرام وكان ضمن اختصاص تغطية أخبار ونشاط وزارة الأوقاف، وفى يوم دخلت مكتبه لا أعرف من فيه على أمل أن أجد خبرا أو موضوعا يصلح للنشر، فوجدت نفسى أمام الشيخ سيد سابق، رجل هادئ، نظارته الكبيرة السميكة هى أبرز ما فى وجهه، رحب بى ووجدت نفسى تلميذا أمام أستاذ كبير، نسيت أنى أعبث عن موضوع صحفى وجلست أسأل وهو يجيب.. وأصبحت تلميذا لهذا الرجل، وقد أهدانى نسخة من كتابه الشهير «فقه السنة» بأجزائه مازلت أعتز به وأرجع إليه كلما وجدت مسألة أريد أن أعرف وجه الصواب فيها.
والشيخ سيد سابق صاحب تاريخ حافل، ولد فى قرية أصطفها بالمنوفية، والده كان مزارعا يمتلك عدة أفدنة وكانت لديه أمنية أن يلتحق بالأزهر وحقق أمنيته حتى تخرج فى كلية الشريعة وعمل مدرسا بالأزهر ثم عمل فى وزارة الأوقاف .
وكتابه «فقه السنة» يعتبر المرجع الأساسى فى الفقه، وقد أعيد طبعه عشرات المرات وترجم إلى عدة لغات أجنبية ولا تخلو منه مكتبة فى أى بلد فى العالم.
عمل الشيخ سيد سابق فى عدد من الجامعات خارج مصر لكنه استقر سنوات طويلة يدرس عشرين عاما رئيسا لقسم الدراسات العليا فى جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وكان منهجه فى التدريس وفى كتاب فقه السنة هو التبسيط والبعد عن الخلافات المذهبية ورفض التشدد والمتشددين، ولذلك لجأ إليه عدد من أعضاء مجلس الشعب عند إعداد ومناقشة قانون الخلع فى مجلس الشعب، وقال بوضوح فى مواجهة الرافضين للقانون إن العلاقة الزوجية فى شريعة الإسلام لا تقوم إلا بالرضا والقبول من الطرفين ولا تستمر إلا بالرضا والقبول، ولذلك الخلع حق لكل زوجة ولا يسمح الإسلام بقهر المرأة ويفرض عليها أن تعيش وتعاشر رجلا لا تريد أن تعيش معه ولا تريد أن تعاشره المعاشرة بالإكراه ليست من الإسلام، والمفروض أن يوافق الزوج على الخلع بمجرد أن تطلبه الزوجة فإن رفضه يكون القاضى هو المسئول عن إلزام الزوج بالخلع وهذا ما فعله النبى ( صلى الله عليه و سلم ) مع ثابت وزوجته حيث أمر ثابتا بأن يطلق زوجته بناء على طلبها، حيث إنها كانت لاتطيق العشرة معه وأمرها بأن تعيد إليه المهر الذى قدمه إليها وكان عبارة عن حديقة. وكان معروفا عن الشيخ سيد سابق دفاعه عن حقوق المرأة وفق وصية النبى ( صلى الله عليه و سلم ) «أوصيكم بالنساء خيرا» وقوله «خيركم خيركم لأهله»، وكان يخصص درسا للنساء كل يوم خميس كما كان يحاضر السيدات ورائدات العمل الاجتماعى اللاتى يعملن فى مكاتب توجيه الأسرة التى كانت تشرف عليها مفيدة عبد الرحمن.
***
وابتلى الشيخ سيد سابق بهجوم المتشددين عليه، وهم الذين حذر الرسول ( صلى الله عليه و سلم ) وقال: «هلك المتنطعون» وقال: «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق» وقال «لاتشددوا فيشدد الله عليكم» .. وذلك لأنه أراد تيسير الفقه لعامة المسلمين الذين لا يلتزمون بأحد المذاهب الفقهية ويريدون معرفة كيف يتعاملون ويعملون وفقا لصحيح الإسلام ودون تقعر أو تضييق.
***
عمل الشيخ سيد سابق مديرًا لإدارة الثقافة فى وزارة الأوقاف،وكان الشيخ محمد الغزالى فى ذلك الوقت مديرا للمساجد، والشيخ البهى الخولى مراقبا للشئون الدينية، وكان وزير الأوقاف وقتها هو الشيخ أحمد حسن الباقورى هو الآخر من مدرسة التيسير فى العمل الإسلامى ويستشهد دائما بما قيل عن النبى ( صلى الله عليه و سلم ) إنه كان دائما يختار الأيسر من الحلول ويقول «يسروا ولا تعسروا» وهذا امر يجب ألا يخالفه أحد من المسلمين. وفى سنة 1994 حصل على جائزة الملك فيصل فى الفقه الإسلامى بالمشاركة مع الشيخ يوسف القرضاوى.. وكان يكشف الأخطاء الفقهية التى يعتمد عليها الإرهابيون فى قائمة المطلوبين وحاولوا قتله بأن أرسلوا إليه علبة حلوى المولد مفخخة بقنبلة موقوتة ونجاه الله من شرورهم ومكائدهم بأن أبلغته زوجته بوصول علبة الحلوى فطلب منها ألا تقترب منها وأبلغ البوليس وفعلا اكتشفوا أنها مفخخة وأبطلوا مفعولها.
***
كان الشيخ سيد سابق يرفض أن يتحول الداعية من طالب علم إلى طالب حكم ولذلك رفض منصب وزير الأوقاف حين عرضه عليه جمال عبد الناصر وقال: « أنا لا أصلح للحكم، نحن دعاة لا نصلح حكاما» وسافر إلى اليمن هروبا من المنصب مع أن علاقته كانت وثيقة برجال الثورة: عبد الناصر، وكمال الدين حسين، وحسين الشافعى وغيرهم.. وكان يتنبأ بظهور التطرف وينبه أن التطرف صناعة خبيثة من أطراف تعادى الإسلام وتريد تخريبة بأيدى أبنائه، ولذلك اشترك فى الحوار الفقهى مع قادة التنظيمات فى السجون فى السبعينيات. وقد غضب غضبا شديدا حين وقعت حادثة قتل السياح وكتب يقول: هذه جريمة، لأننا - كمسلمين - يأمرنا ديننا بأن نكون مسئولين عن حياة هؤلاء السائحين، نحن مسئولون عنهم أمام الله، فنحن سمحنا لهم بدخول بلادنا، فهذا هو «عقد الأمان» ولا ينبغى لمسلم أن ينقضه.
عاد الشيخ من السعودية بعد عشرين عاما قضاها بجوار الكعبة، وتبرع بالمال الذى جمعه فى هذه الفترة لبناء ثلاثة معاهد دينية فى قريته بالمنوفية وخصص معظم راتبه لمساعدة المسلمين. وحين قيل له إن هناك من طبع وباع 30 ألف نسخة من كتاب فقه السنة دون إذن منه ودون أن يقدم له شيئا عن حقوق التأليف قال «لا بأس.. لا بد للعلم أن ينتشر»!
وكان الشيخ يكره المتعصبين لمذهب معين من مذاهب الفقة، ويردد قول الإمام مالك: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب» فانظروا فى رأيى وكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، ومالم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه وقول الإمام الشافعى: «لا تقلدونى، وإذا صح مذهب خير يخالف مذهبى فاتبعوه واعلموا أنه مذهبى» وقول الإمام أحمد بن حنبل لأحد تلاميذه «لا تقلدنى ولا مالكا ولا الشافعى ولا الثورى وخذ من حيث أخذوا».. وفى ذلك نهى عن التقليد الأعمى للمذاهب ولأقوال الأقدمين بدون معرفة الأدلة التى استندوا إليها، وللمسلم العادى أن يأخذ من أى مذهب من المذاهب الأربعة أو يسأل أحد العلماء الموثوق فى علمهم عملا قول الله: ( فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ).
وكان الشيخ يقول: فى اعتقادى أن المطلوب من المسلمين العودة لفهم الإسلام فهما على هدى الكتاب والسنة والانتباه إلى الأقوال التى لا تستند إلى الكتاب والسنة، وليس أمام المسلمين إلا أن يلتقوا على إسلام واحد ولا يفرقوا دينهم إلى شيع وفرق يعادى بعضها البعض وهم جميعا يدينون بدين واحد.. وما أحوجنا إلى العودة إلى الفهم الصحيح للإسلام بأنه دين واحد يوحد ولا يفرق، ويؤلف بين قلوب المؤمنين به ولا يزرع الكراهية فى قلوبهم، ويدعو إلى التعاون والأخوة بين المسلمين وليس العداوة بينهم، وأن يضع الجميع أمامهم قول الله? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وليعذر بعضهم بعضا فيما يختلفون فيه، فإن العقول والأفهام ليست كلها على درجة واحدة، ويكفى أن يلتقى الجميع تحت مظلة الإسلام وأن يتمسكوا بأخلاقه التى تجعل الإنسان يرتفع على الضغائن والصغائر ويجعل التسامح والغفران والتماس الأعذار للناس جزءا لا يتجزأ من عقيدته ويرفض كل ما يدخل فى باب الحقد والانتقام والكراهية وكل ما يؤدى إلى الخلاف والشقاق بين المسلمين لأن ذلك من عمل الشيطان ويبعد الإنسان عن الله.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف