أمـام الغـزو الثقــافى

يحذر المفكرون والسياسيون فى بلدان العالم العربى من مخاطر الغزو الثقافى، ويطالبون بحماية الثقافة الوطنية والقومية قبل أن يصيبها التشوه أو التحول. والثقافة-كما هو معروف- هى المرآة التى تعكس هوية المجتمع والقيم المتوارثة فيه والمكونات الحضارية التى تعكس طبيعة وخصوصية هذا المجتمع، والثقافة هى صاحبة النصيب الأكبر فى صياغة الوعى الجمعى للأمة، ولا يمكن أن تنعزل ثقافة أمة عن ثقافات الأمم الأخرى،خصوصا فى ظل العولمة التى أزالت الحدود تقريبا بين الدول، وأصبح الفضاء ساحة مشتركة للتواصل والتفاعل بين الثقافات عن طريق الفضائيات والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى. ومكونات ثقافة كل بلد هى نتاج تاريخ هذا البلد والقيم الاجتماعية والدينية والأخلاقية السائدة فيه، ومدى ما وصل إليه من تقدم علمى وحضارى، ومدى استفادته من تفاعله مع الثقافات الأخرى، والاتجاهات الغالبة فيه من التعصب و التسامح ومن رفض أو قبول الآخر، ومدى الحرية المتاحة للمثقفين ولأصحاب الرأى.
وفى هذا الإطار يمكن فهم سياسة الولايات المتحدة التى تهدف إلى «أمركة العالم». ولتحقيق ذلك فإن الولايات المتحدة تستخدم وسائل متعددة، مثل استضافة المفكرين والمثقفين والصحفيين وحتى رجال الدين وإشراكهم فى حوارات لغرس أفكار وتوجهات تتفق مع طبيعة الثقافة الأمريكية، والمراكز الثقافية الأمريكية على إنشاء فضائيات تليفزيونية ومحطات إذاعة ناطقة بلغات الدول المختلفة تبث فى برامجها الترويج للأفكار والقيم والثقافة الأمريكية فى مختلف الدول تقوم أيضا بنفس المهمة، وحرص السياسة الأمريكية وبجانب ذلك فإن ترجمة الكتب الأمريكية إلى اللغات الأخرى تخضع إلى سياسة لاختيار الكتب التى تقنع قراءها بالفكر والعادات وبإسلوب الحياة الأمريكية، ولكى تتغلغل الثقافة واسلوب الحياة الأمريكية فى عقول عامة المواطنين فإن المسلسلات التلفيزيونية الأمريكية تقوم بهذه المهمة، ومع تكرار عرض هذه المسلسلات وتعود المشاهد عليها بما فيها من مشاهد ومواقف مبهرة ومن عناصر التشويق والمفاجآت ودغدغة العواطف والتلاعب بالغرائز، ومافيها من الإثارة فى عرض تفاصيل الجريمة بطريقة تستولى على انتباه المشاهد، هذه المسلسلات التليفزيونية هى السفير فوق العادة الذى يتولى تغييب العقول والأذواق والأفكار وبناء الإعجاب بالنموذج الأمريكى فى الحياة وإثارة الخيال بأحلام حول السفر والهجرة إلى أرض الفرص والوفرة والثروة..
ليس معنى ذلك أن الثقافة الأمريكية، وكذلك الإنتاج التليفزيونى الأمريكى كله موجه لتنفيذ سياسة العولمة والهيمنة، ففى الثقافة كما فى التليفزيون الأمريكى إنتاج راق يعكس الفنون والثقافة الأمريكية الرفيعة، ولكن ما أتحدث عنه هو المسلسلات السطحية المليئة بمشاهد العنف والجريمة والجنس والتى لا تحمل أية رسالة أخلاقية أو اجتماعية، وفى الصحافة الأمريكية انتقادات حادة لهذا النوع من الإنتاج السينمائى والتليفزيونى، ومنذ سنوات ألقى تيد تيرنر صاحب شبكة سى.إن.إن الإخبارية الشهيرة خطابا قال فيه: «إن معظم ما تراه جماهير التليفزيون الأمريكى مجرد زبالة»..
***
والرد الأمريكى التقليدى على من يثير خطورة تصدير هذا الإنتاج الأمريكى الذى يفسد الثقافات الوطنية هو: لماذا تقدمون هذا الإنتاج عندكم وهل فرضناه عليكم بالقوة؟ وهذه إجابة معقولة والمشكلة أن دول العالم الثالث تتسابق فى فتح محطات تليفزيونية ولا تقدر على تمويل إنتاج برامج ومسلسلات جادة كافية تملأ ساعات الإرسال، وبسبب محدودية الموارد المالية والفنية والبشرية تقع هذه المحطات هدفا سهلا لشركات التوزيع فى نيويورك وهوليوود التى تعرض مسلسلات تملأ مئات الساعات من البرامج المخزونة بأسعار تافهة، وهكذا أصبح الإنتاج الثقافى عامة والإنتاج التليفزيونى والسينمائى خاصة منتشرا فى كل بقعة من بقاع الكرة الأرضية، وحتى الدول التى كانت تقيم سدودا منيعة أمام هذا الإنتاج مثل الصين وألبانيا وكوبا بدأت هذه السدود تنهار أمام طوفان الإنتاج الأمريكى المبهر والرخيص. ولم يعد هذا الطوفان مقصورا على الدول النامية وحدها ولكنه طال الدول المتقدمة مع زيادة عدد القنوات التجارية التى تسعى إلى الربح بتقليل المصروفات وزيادة الإيرادات، وكثير من هذه القنوات يعتمد على عرض البرامج الرخيصة من المخزون فى استديوهات وشركات الإنتاج فى هوليوود، وقد اتخذت الحكومة الفرنسية منذ عدة سنوات إجراءات لمواجهة هذا الغزو واشترطت أن تكون نصف البرامج الدرامية والتسجيلية والرسوم المتحركة التى تعرضها محطات التليفزيون الفرنسية من إنتاج فرنسى، ونفس الشىء فعلته كندا ومعظم محطات التليفزيون الأوروبية.
***
ونتيجة لمواقف الدول الأوروبية بدأت الولايات المتحدة تبدى قلقها لهذا الاتجاه وتتهم هذه الدول بأنها تخل بمبادئ حرية تداول الأفكار والمعلومات، وكان موقف كندا هو الأكثر وضوحا لأنها رفعت شعار حماية الثقافة الكندية، وعلى الرغم مما هو معروف من تبعية السياسة الكندية للسياسة الأمريكية فإنها عملت على استثناء الإنتاج الثقافى من اتفاقية التجارة الحرة بينها وبين الولايات المتحدة والمكسيك، وقامت الحكومة الكندية بتقديم الدعم لهيئات التليفزيون والإنتاج السينمائى والتليفزيون المحلى وخفضت الضرائب على هذا الإنتاج وكان من نتيجة ذلك أن تضاعف الإنتاج التليفزيونى وزاد الإنتاج السينمائى.
***
ومنذ سنوات نبه الأستاذ حمدى قنديل الخبير الإعلامى المعروف إلى ضرورة التنبيه إلى سياسة «أمركة العالم» وقد عمل النظام العالمى الأمريكى الجديد على اقتحام كل الأبواب والنوافذ بضغوطه السياسية والاقتصادية وبالتقدم التكنولوجى الذى ينسف بأقماره الصناعية كل الحواجز والحدود الدولية، ولكن مع ذلك فإن لدينا- ولدى غيرنا من دول العالم - هامشا لحرية الحركة لابد من استغلاله إن كان مكتوبا علينا ألا نتحرك إلا فى إطاره.
ونحن- مع الأستاذ حمدى قنديل- لانريد أن تتحول القضية إلى قضية سياسية أو أيديولوجية، ولسنا ضد حرية التجارة، ولا ضد حرية وتفاعل الثقافات والإعلام، ونرفض إغلاق النوافذ والأبواب، فقط نحن -معه- لا ننادى بأكثر مما تنادى به دول أخرى متقدمة، فالحرية فى حقيقتها هى التعددية والتنوع وهى الحق فى الاختيار، ولهذا لا نقول امنعوا الإنتاج التليفزيونى والسينمائى الأمريكى فهذا شىء لا يتفق مع العقل ومع طبيعة العصر، ولكن نقول-معه- اختاروا لنا من الإنتاج الأمريكى أفضل ما فيه، ولا تقصروا اختياركم على الإنتاج الأمريكى فهناك إنتاج ثقافى وفكرى وسينمائى وتلفيزيونى متميز فى بلدان أخرى.. اختاروا من الإنتاج الأمريكى والبريطانى والفرنسى والألمانى والبرازيلى والصينى واليابانى والماليزى... اختاروا المستوى الراقى الذى يرفع مستوى ثقافتنا ويضيف إليها ويجعلنا نعيش فى العالم بعقلية القرن الحادى والعشرين.. حسنا فعلنا باستيراد المسلسلات التركية ولكن يجب ألا تزيد الجرعة على الحد وإلا فسوف نقع فى فخ الغزو الثقافى من تركيا بعد أن وقعنا فى الغزو الثقافى الأمريكى.. الحل بسيط.. افتحوا كل الأبواب.. دعونا نتعرف على الإنتاج الثقافى لكل الدول ونختارأفضل ما فيه لكى نزيد ثقافتنا ثراء وتقدما.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف