العدالة الأمريكية
كانت أمريكا في نظر شعوب العالم أرض الأحلام, والتجسيد الحي لقيم الحرية, والعدالة, واحترام حقوق الانسان, والآن تبدو أمريكا أمام العالم بوجه مختلف فيما يشبه الانقلاب أو الثورة المضادة علي القيم الأمريكية.
ليس هذا رأي أعداء أمريكا, ولكنه رأي أقرب أصدقائها, بل هو رأي قطاع من المثقفين والأكاديميين والسياسيين الأمريكيين أنفسهم. في بريطانيا ألقي اللورد جون ستين محاضرة في لندن نشرت صحيفة هيرالد تريبيون الأمريكية ملخصا لها يوم27 نوفمبر الماضي بعنوان فشل كبير للعدالة قال فيها إن أقوي دولة ديمقراطية في العالم تعتقل مئات من المشتبه في وجود صلة لهم بتنظيم القاعدة, وهم رهن الاعتقال منذ أكثر من عامين دون أن يوجه إليهم اتهام محدد أو يخطروا بأسباب اعتقالهم, وما يجري لهؤلاء المعتقلين يدل علي أن الدول الديمقراطية الليبرالية يمكن أن ترتكب انتهاكات لحقوق الإنسان بأساليب لا تتناسب مع الدواعي والظروف, وها هي الولايات المتحدة تقدم للدول النموذج الذي يمكن أن تحتذيه باعتقال من تراه دون محاكمة ودون توجيه تهمة, وتعطي لنفسها الحق في إصدار قوانين متسرعة تمنح للسلطة التنفيذية سلطات مفرطة تعرض حقوق وحريات الأفراد للخطر دون أن يكون لديها أدلة كافية لذلك. ولاشك في أن النتيجة المؤكدة هي ضياع الحرية! وحتي في الفترة الأخيرة ـ وبعد عامين من أحداث سبتمبر ـ ارتكبت الحكومة الأمريكية أعمالا تنطوي علي ظلم فادح بحجة دواعي الأمن, واعتدت بها علي آلاف لا يستطيعون اللجوء إلي القانون أو القضاء!
واللورد جون ستين هو واحد من قضاة المحكمة العليا في بريطانيا وهي قمة النظام القضائي فيها, ومكونة من اثني عشر من أساطين القضاء ولهم مكانة ومهابة تفوق الوصف, وما يصدر عنهم يؤثر تأثيرا كبيرا في دوائر القضاء والقانون والسياسة وفي الرأي العام.
وفي هذه المحاضرة قال اللورد جون ستين أيضا إن ما يحدث في سياق الحرب غير المحددة علي الارهاب يمثل مشهدا كئيبا للاعتداء علي حقوق الانسان, ودائما يحذر العقلاء من اساءة استخدام السلطة لأنه يفتح الباب لمزيد من الممارسات من هذا النوع, وعلي القضاء واجب الوقوف لمنع الشطط والعسف والعنف المفرط من جانب السلطة التنفيذية. وإن كان الكونجرس الأمريكي قد سارع عقب11 سبتمبر بإصدار القانون الوطني وأعطي به للرئيس الأمريكي سلطة استخدام أقصي درجات القوة ضد المسئولين عن هجمات سبتمبر لمنع وقوع هجمات أخري, وفي7 أكتوبر2001 بدأت الحرب الأمريكية علي أفغانستان, وفي13 نوفمبر2001 أصدر الرئيس الأمريكي أمرا بتشكيل لجان عسكرية لمحاكمة المتهمين بانتهاك قوانين الحرب, وتم تعديل هذا الأمر أكثر من مرة, ومنذ يناير2002 تم نقل660 معتقلا إلي معسكر( اكس راي) ثم إلي معتقل( دلتا) بخليج جوانتانامو, وكان من بينهم أطفال بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة, وشيوخ طاعنون في السن, وبمرسوم رئاسي حرم هؤلاء المعتقلون من معاملة الأسري ولا أحد يعرف ما يحدث لهم علي وجه اليقين. وكل ما نعلمه أن الزنزانة في هذا المعتقل مساحتها240 سنتيمترا طولا و180 سنتيمترا عرضا وأن المعتقلين يبقون مكدسين فيها24 ساعة يوميا. وهم خارج نطاق الحماية القانونية والقضائية وتحت رحمة المنتصرين وحدهم, وقد وضعت السلطة الأمريكية قاعدة قانونية جديدة في الاجراءات الجنائية وهي اعتبار اعتراف المتهم تحت الاكراه والتعذيب اعترافات صحيحة. وكل ما يحدث في جوانتانامو يحدث بأوامر رئاسية, وليس معروفا ما سيحدث لهم سوي أنهم سوف يحاكمون أمام محاكم عسكرية وأن المحاكمات ستكون سرية وسيتم تنفيذ حكم الاعدام علي من تصدر عليهم هذه الأحكام. وقد أعلن أن اثبات البراءة أو الادانة علي كل معتقل سيكون وفقا لقرارات الرئيس, بينما أعلن الرئيس موقفه مبكرا ووصفهم بأنهم قتلة.
وفي الختام قال اللورد جون ستين قاضي المحكمة العليا في بريطانيا: لقد نشأت علي الاعجاب بمثاليات الديمقراطية والعدالة في أمريكا والآن أجد نفسي مضطرا للاعلان عن فشل هذه العدالة, وهذه أزمة تواجه الديمقراطيات. وعلي الحكومة البريطانية أن تعلن صراحة ادانتها لغياب القانون وحقوق الانسان. وتطالب بمحاكمة هؤلاء المعتقلين أمام محكمة دولية تابعة لمجلس الأمن.. وهكذا نري أن الضمير البريطاني مازال حيا.