تتزايد المعارضة في أمريكا لسياسة القوة العسكرية والضغط علي الدول اقتصاديا وسياسيا لتغييرها او لفرض الاستسلام عليها, وتوجه إلي الإدارة الأمريكية الحالية انتقادات حادة من مختلف القيادات حتي من داخل الحزب الجمهوري الحاكم, وذلك بعد الفشل الذي حققته هذه السياسة في العراق وافغانستان.
ودروس التاريخ القديم والحديث تؤكد أن انفراد دولة واحدة بالقوة, واستخدامها لهذه القوة لفرض هيمنتها علي العالم والانفراد بتقرير مصير الدول والشعوب, لابد أن ينتهي بالفشل وتدفع الشعوب من ارواح ابنائها ومن أموالها لاعادة بناء ما دمره جنون القوة.
ومنذ اسابيع قليلة القي الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون محاضرة في جامعة ييل, وهي واحدة من ارقي واكبر الجامعات الامريكية, عرض فيها تجربته بعد السنوات الثماني التي قضاها رئيسا للولايات المتحدة, وعرض رؤيته لنتائج السياسة التي تتبعها الادارة الحالية, وقال ان سنوات حكمه شهدت نموا كبيرا للاقتصاد الامريكي, وحققت التجارة الأمريكية ثلث هذا النمو الاقتصادي, وفي نفس الوقت كانت أمريكا في نظر العالم موضعا للاحترام, ونموذجا للديمقراطية, وحقوق الإنسان, وتمد يدها لمساعدة الشعوب في انحاء العالم, وتفتح حدودها للمهاجرين دون أن تضيق بهم او تضيق عليهم, وكانوا دعما واضافة للاقتصاد الامريكي, وسدوا النقص في الايدي العاملة... وكانت شعوب العالم تتطلع إلي أمريكا علي انها الممثلة للقيم الإنسانية والمثل الاعلي الذي يتطلع اليه الجميع..
وقال كلينتون إن العالم كان يتوقع أن تقوم أمريكا في القرن الحادي والعشرين بالمهمة الكبري التي وعدت بها, وهي العمل علي اقامة مجتمع عالمي ينتقل من مرحلة الاعتماد المتبادل إلي مرحلة الاندماج... بحيث يتحمل المجتمع الدولي مسئوليات مشتركة, ويتبني مجموعة قيم مشتركة, ويعمل لتحقيق منافع مشتركة.... وكان علي أمريكا لكي تقود العالم نحو هذه الاهداف ان تبذل جهودها من أجل تقليل مخزون المواد النووية والبيولوجية والكيميائية لتقليل المخاطر, وكان عليها في نفس الوقت أن تعمل علي دعم المؤسسات الدولية وتقويتها لتكون الملاذ لدول العالم, وتلجأ إليها لحل الخلافات فيما بينها علي اساس العولمة, كما كان علي أمريكا أن تتقاسم المنافع مع الدول الأخري, ولا تسعي إلي الانفراد بالغنائم وحدها, لأنها مهما بلغت من الغني والقوة, ومهما بلغت قدرتها علي سجن واحتلال كل اعدائها, فلن يحقق لها ذلك ما يحققه التعاون الدولي وسياسة اكتساب اصدقاء اكثر واعداء أقل.. وشركاء اكثر وارهابيين أقل.
لكن امريكا لم تفعل ذلك في وجود الادارة الحالية, والنتيجة ما يحدث الآن في العراق, فالولايات المتحدة تمتلك القوة العسكرية السوبر التي لا مثيل لها في العالم, وهي بهذه القوة قادرة علي الانتصار في أي حرب وحدها, ولكنها ــ بالرغم من ذلك ــ لن تقدر علي بناء السلام بمفردها... ولا تستطيع كسب ود العالم دون ان تقدم المساعدات لتحسين اوضاع نصف سكان العالم الذين يعيشون تحت خط الفقر, ونصيب الواحد منهم دولاران في اليوم أو أقل... ودون ان تضاعف حجم تجارتها مع الدول النامية, وتقديم المزيد من المساعدات لها لحل مشكلة الديون التي تعوق التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها, وتجعل مهمة تطوير التعليم والرعاية الصحية في هذه الدول ضمن المسئوليات الامريكية... كما تجعل رسالة أمريكا مساعدة هذه الدول الفقيرة علي تمويل المشروعات التي تبني اقتصادا قويا.
هل تفعل الادارة الأمريكية الحالية شيئا من ذلك؟
يقول كلينتون: كنت اتحدث مع الأمين العام للامم المتحدة عما أقوم به لمحاربة الايدز في إفريقيا والكاريبي وما توصلنا إليه من خفض اسعار الادوية اللازمة لذلك, وتوصلنا إلي اننا نحتاج إلي تمويل كبير لتطوير شبكات الرعاية الصحية لكي يتحقق الانتصار علي هذا المرض القاتل... وهذا نموذج للعمل الذي يجب ان تنشغل به أمريكا... انه ليس عملا لانتاج انواع جديدة من الصواريخ, ولكنه عمل لبناء عالم فيه اصدقاء اكثر وارهابيون اقل... ومازلت مصرا علي ان أمريكا لن تستطيع قتل وسجن واحتلال جميع خصومها الحاليين والمحتملين, بينما لا تستثمر اموالها في بناء عالم تكسب فيه المزيد من الشركاء والاصدقاء, وعلي أمريكا أن تقيم علاقاتها مع الدول علي اساس التعاون, ولا تعمل وحدها.. لكن المحافظين في الادارة الحالية يؤمنون بمبدأ انفراد أمريكا بالعمل وطلب التعاون حين تحتاج إلي ذلك فقط... ويكفي ما حدث في العراق... والآن فإن الامم المتحدة هي التي يجب ان تتولي مهمة حفظ الامن, وحلف الناتو يمكن ان يتعاون في ذلك, وليس من الحكمة انفراد دولة واحدة بالحكمة وامتلاك الحقيقة والقوة وفرض الرأي علي الآخرين... فهذه السياسة لا تناسب العصر ولا تحل المشكلات.. وليس كل من يختلف معنا عدوا لنا...
هل سيجد صوت العقل آذانا صاغية في الإدارة الحالية.؟!