تواجه الإدارة الأمريكية أزمة معقدة, هي في حقيقتها عدة أزمات متشابكة, وقد اختارت تجاهل الأزمات والاستمرار في السياسات التي أدت إليها.
وتتعدد اجتهادات المفكرين لتحديد العوامل والأسباب التي أدت إلي دخول الولايات المتحدة في هذا المأزق الاستراتيجي, وفقدانها المصداقية, وتباعد المسافات بينها وبين حلفائها وأصدقائها, وتبديد التعاطف الدولي الكبير الذي كان طاغيا عقب أحداث11 سبتمبر, ومن هؤلاء الباحثين مورتون إبرامويتزMortonAbramowitz, الذي كان مساعدا لوزير الخارجية في إدارة ريجان, وهو الآن من كبار المفكرين في واحد من أهم مراكز البحث السياسي والاستراتيجي في الولايات المتحدةCenturyFoundation, وقد نشر ملخصه في صحيفة واشنطن بوست بعنوان فريق بوش ليس علي المستوي, وقال إن هناك ثلاث سمات سائدة في صناعة السياسة الأمريكية اليوم هي: زيادة المشاكل التي تفتعلها هذه الإدارة, وحرب داخلية بين أركان الإدارة ذاتها, ومنهج التفكير للمدي القصير دون إدراك الآثار السلبية لذلك علي المدي الطويل.
والقضايا التي تشغل كل إدارة أمريكية قضايا كثيرة ومعقدة لأن قوة أمريكا وتأثيرها في العالم, وانتشار مصالحها علي مساحة الكرة الأرضية يجعلها طرفا في كل مكان, وفي كل قضية تقريبا, والجميع يعرفون ذلك ويعترفون به بل ويطالبون أمريكا دائما بالتدخل في كل أزمة في العالم, وعادة ما تجري علي ألسنتهم عبارة علي أمريكا أن تفعل كذا, ولكن الأحمال زادت علي هذه الإدارة بدرجة كبيرة, فقد أشعلت حربا عالمية قالت إنها حرب علي الإرهاب, ودخلت مناطق ليست ضمن مناطق نفوذها وشعوبها لا تشعر بالتبعية لأمريكا, وتقاتل القوات الأمريكية في أماكن صعبة مثل أفغانستان والعراق, وتدخل في مواجهات مع دول متعددة مثل كوريا الشمالية, وإيران, وسوريا, ودول عربية أخري, وتحاول إقناع الرأي العام الأمريكي بجدوي كل هذه الحروب والأزمات التي تتسبب فيها, وتحاول احتواء العنف المستمر في العديد من الدول ابتداء من كولومبيا وحتي الفلبين, وهي متورطة في الشرق الأوسط, وفي جنوب آسيا, في أزمات دبلوماسية لمنع المذابح هنا وهناك, ولا تلتزم الإدارة الأمريكية بسياسة رشيدة للانفاق الذي يبدو بلا حدود وبلا نهاية للوفاء بالمتطلبات العسكرية المباشرة, وإجراءات الأمن الداخلي المبالغ فيها, ومساعدة الدول الضعيفة للابقاء عليها علي قيد الحياة, وانتشال الدول الفاشلة, وكل ذلك يتطلب من الوقت والتفكير ما يفوق قدرة كبار المسئولين في البيت الأبيض وبقية الوزارات المسئولة عن المشاركة في التخطيط والتنفيذ, والرئيس مشغول, والمفروض أنه هو المنسق الرئيسي للسياسات.. فهو مشغول بمشكلات اقتصادية كبيرة, ويواجه مخاطر انتقال الأزمات الاقتصادية الدولية إلي أمريكا, كما يواجه مشكلة الركود في الاقتصاد الأمريكي, وهبوط البورصات, وفضائح الفساد في الشركات الكبري ورجالها, وهو مضطر إلي التعامل مع كل هذه المشاكل ـ وغيرها ـ بفريق اقتصادي ومالي وسياسي يتمتع بالمصداقية والاحترام في الداخل والخارج, ولكن ما يحدث أن الخلاف بين أركان الإدارة الأمريكية وصل إلي مرحلة الصدام ثم وصل أخيرا إلي مرحلة الحرب الداخلية, ويزيد المشكلة أن الخلافات ليست شخصية, ولا هي مجرد اختلاف في الرأي, ولكنها خلافات أيديولوجية حول كيفية إدارة العالم.
وقد امتدت هذه الخلافات لتشمل ما يجب علي أمريكا أن تعمله في القضايا الكبري: العراق, وأفغانستان, والصين, والصراع العربي ـ الإسرائيلي, وكوريا الشمالية, والتعامل مع الحلفاء, والدبلوماسية العامة لتغيير الشعور بالكراهية لأمريكا السائد في العالم, وبالنسبة لسياسة أمريكا في الشرق الأوسط فإنها تبدو كارثة وذلك من نتائج هذه الحرب الداخلية في الإدارة الأمريكية.
وهذه الحرب الداخلية ليست جديدة, فقد كانت مشتعلة في حكم ريجان, ولكنها كانت قائمة في المستوي الأعلي بين الرءوس الكبيرة, ولم يكن لها أثر كبير في المستويات الأدني, ولذلك كانت أعمال الحكومة تسير بفضل تجاوز القيادات الوسيطة لخلافات الكبار, ولكن الحال ليس كذلك في إدارة بوش, فالحرب الداخلية دائرة يوميا وتحولت إدارات الحكومة إلي خنادق, والأيديولوجيا تلعب دورا كبيرا في إشعال هذه الحرب, وقد أدي ذلك إلي الركود في الإدارة الحكومية وإلي التناقض بين القول والفعل.. بين اللغة المستعملة والسياسة المطبقة, والإدارة الحالية ليست مستعدة لتحمل تضحيات علي المدي القصير لتحقيق مكاسب علي المدي البعيد, وقصر النظر هذا من أهم أسباب أزمتها, ويضاف إلي ذلك أن كثيرا من الأحداث تمر دون أن ينتبه أو يهتم بها أحد.. وما يحتاجه الرئيس بوش هو أن يزيح عددا من الرءوس الكبيرة من حوله ليعود التناسق داخل إدارته.
هذا هو تحليل المفكر الاستراتيجي والمسئول السابق في إدارة ريجان مورتون إبرامويتز, ومثال آخر الباحث بيتر بيترسون رئيس مجلس العلاقات الخارجية وقد لخص رؤيته في مقال بعنوان صورة أمريكا تمثل مخاطر جادة قال فيه إن السياسات التي تطبقها أمريكا في الخارج تراعي فيها المصالح الأمريكية دون مراعاة الآخرين, ومصالحهم وآرائهم, والاستهانة بالاتجاهات السائدة في الخارج تجاه أمريكا يعوق نجاح السياسات الأمريكية, والإدارة الأمريكية الحالية تميل إلي خلق الصدامات حتي مع أفضل أصدقاء أمريكا.
هذا التفكير نلاحظه في الصحافة الأمريكية الآن بعد أن ازدادت وطأة الشعور بالأزمة الأمريكية, وحتي الآن يبدو التجاهل للرأي العام والعناد هما رد الفعل الوحيد من جانب الإدارة الحالية دون حساب للعواقب!.