يزداد الشعور في الرأي العام الأمريكي, وبين المفكرين والسياسيين بأن الحرب ضد العراق وضعت الولايات المتحدة في مأزق يصعب الخروج منه.
منذ ايام كتب جون ماكين العضو الجمهوري بمجلس الشيوخ مقالا في واشنطن بوست قال فيه إنه ينبغي علي الرئيس بوش ان يصارح الشعب الامريكي بحقيقة الثمن الذي ستتحمله الولايات المتحدة في العراق, وفي اليوم نفسه اعلن عضو مجلس الشيوخ ريتشارد لوجي في حوار تليفزيوني ان الشعب الأمريكي لن يستطيع تحمل تكلفة استمرار احتلال العراق التي لن تقل عن ثلاثين مليار دولار, ولن يكفي النفط لتغطية نصف هذه التكلفة, وان ادارة الرئيس بوش لن تتحمل الاستمرار في انفاق اربعة مليارات دولار شهريا تكاليف قوات الاحتلال, مع تزايد اعداد القتلي من الجنود, أما اعادة الاعمار فإنها تحتاج الي حملة دولية للاسهام فيها.
وتوماس فريدمان الذي كان من اكبر المروجين لقرار الرئيس بوش بغزو العراق علي انه ضروري من اجل اسرائيل اولا والبترول ثانيا, واكتمال الهيمنة علي منطقة الشرق الاوسط ثالثا, عاد في اول سبتمبر الحالي ليحذر من استمرار احتلال امريكا للعراق, في مقاله بعنوان السياسة الامريكية في العراق تحتاج الي جراحة عاجلة قال فيه ان تفجير مقر الامم المتحدة في بغداد كان رسالة تحذير لأي دولة تفكر في الانضمام الي امريكا في العراق, وملخص الرسالة انه حتي الأمم المتحدة ليست آمنة هنا, وهذا هو المصير الذي ينتظر الآخرين.. وتفجير النجف الاشرف واغتيال الامام محمد باقر الحكيم واكثر من مائة من اتباعه كانت رسالة باحتمال اشتعال فتنة طائفية قد تؤدي الي الفوضي, وفي كل الاحوال ستكون الولايات المتحدة مضطرة لزيادة قواتها, أو ان تعود الي حلفائها ليتحملوا معها الاعباء, وتعود ايضا الي الامم المتحدة لإضفاء الشرعية علي وجودها ووجود من تطالبهم بالانضمام اليها لمساعدتها علي مواجهة هذا المأزق.
ويقول فريدمان ان البيت الابيض والبنتاجون كانا يعملان علي اساس ان هذه حرب سهلة, لكن ما يحدث جعل اقرب الناس الي السلطة يتراجعون, حتي ان نائب وزير الخارجية ريتشارد ارميتاج اعلن عن لجوء امريكا الي مجلس الامن لإرسال قوات دولية تحت سلطة الامم المتحدة نزولا علي شرط الحلفاء, وفي الوقت نفسه اعلن بول بريمر الحاكم الامريكي للعراق ان اعادة الاعمار تحتاج الي عشرات المليارات من الدولارات, ويصل فريدمان الي ان استراتيجية امريكا في العراق تحتاج الي جراحة عاجلة بحيث يتحول الرئيس بوش من موقف الازدراء الي موقف الاحترام للأمم المتحدة, ويتراجع عن قرار حل الجيش العراقي لأنه القوة الوحيدة التي تستطيع حماية المواقع الدينية والاستراتيجية والفصل بين الاطراف, ولابد ان تتراجع الادارة الامريكية عن موقفها السابق بأنها تعلم كل شئ, وتقدر علي كل شئ, والجميع اغبياء وتعمل بتواضع مع حلفائها, وإذا حصلت امريكا علي تفويض من الأمم المتحدة فإن ذلك يعطي لوجود القوات الامريكية شرعية تحت مظلة الأمم المتحدة ويشجع علي انضمام حلفاء جدد في اطار هذه الشرعية, وقد عبر كوفي أنان عن ذلك حين قال ان هناك دولا يمكن ان تساعد امريكا في العراق ولكنها لا تريد العمل في اطار احتلال أمريكي للعراق.
ويقول فريد مان ان الوضع في العراق يمكن ان يكون تكرارا للوضع في البوسنة: قوات دولية بقيادة امريكا تحت علم الأمم المتحدة: ولكن الدول لن ترسل قواتها في ظل الوضع الحالي من الفوضي وغياب الامن, ولذلك ـ كما يقول فريدمان ـ يجب علي البنتاجون ان يتراجع عن قراره الغبي بتسريح الجيش العراقي, ويعمل علي استرضاء العسكريين بسخاء ليعملوا معنا, وتبقي مشكلة لمن السلطة السياسية في العراق, وهي الآن في يد بريمر وستبقي كذلك, ويمكن لمجلس الحكم العراقي, ان يكون الواجهة امام الامم المتحدة والدول التي ستشارك القوات الامريكية.. هذا هو السيناريو الامريكي الجديد للعراق.
ويكرر فريدمان ان الامريكيين يشعرون بالقلق, وهم يريدون النفط, ولكنهم لا يريدون زيادة عجز الميزانية الامريكية اكثر مما هي عليه, ويريدون مشاركة الحلفاء ولا يريدون استمرار الخسائر البشرية بين الامريكيين. ولا يريدون ان يكون لغيرهم سلطة في العراق أو رأي في تقرير مصيره.
وباختصار فإن الامريكيين يريدون النصر دون ان يدفعوا ثمنه, ويدفعه لهم غيرهم! وهذه معادلة صعبة ان لم تكن مستحيلة, ولكن العقل الامريكي يعتقد ان هذه المتناقضات ممكنة.