تعيش أمريكا هذه الأيام مع ذكري جريمة11 سبتمبر التي لم تدمر فقط مركز التجارة العالمي في نيويورك وجزءا من مبني وزارة الدفاع في واشنطن, ولكنها دمرت حالة الاستقرار والسلام التي كان يحلم العالم باستمرارها, وفتحت الباب لعودة الحروب الكبري, والاحتلال العسكري.
ومع الذكري بدأت تظهر التحليلات العاقلة لهذه الجريمة بعد أن هدأت حدة الغضب إلي حد ما, وهذا ما فعله زبجينو برجينسكي مستشارالأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس كارتر في مقال بعنوان ركزوا علي الجذور السياسية قال فيه إن حديث ادارة بوش عن الخطر الذي تواجهه أمريكا يتسم بلغة دينية, وبتكرار القول بأن الارهاب شر, وإن الذين قاموا بهذا العمل الشرير هم المسئولون عنه,
وكأن الارهاب معلق في الهواء كظاهرة غامضة والدافع للارهابيين إلهام شيطاني ليس وراءه دوافع سياسية والرئيس بوش كان حريصا علي القول بأن الاسلام برئ من هذا الارهاب ولكن بعض ذوي المواقع المهمة في إدارته لم يفرقوا بين الارهاب والاسلام, وأعلنوا أن الثقافة الاسلامية في عمومها معادية للغرب وللديمقراطية, وان هذا العداء هو الذي أوجد تربة خصبة لكراهية أمريكا في نفوس الارهابيين. واغفلوا أن وراء هذا الارهاب أسبابا سياسية مثل كل عمل ارهابي آخر, من الجيش الايرلندي, إلي الباسك في أسبانيا, إلي الفلسطينيين في الضفة وغزة, والمسلمين في كشمير.. وهلم جرا.
وفي حالة11 سبتمبر فإن مرتكبي الحادث من الشرق الأوسط, والتاريخ السياسي لهذه المنطقة مرتبط بالشعور بالظلم الأمريكي, ومشاعر المنطقة شكلتها المواجهات مع الاستعمار الفرنسي والبريطاني, وفشل المحاولات العربية لمنع توسع اسرائيل, والتأييد الأمريكي لاسرائيل ومعاملتها المتحيزة للفلسطينيين, وتأثير وجود القوات الأمريكية في المنطقة, وذلك ما اعتبرته العناصر المتشددة اهانة للأراضي الاسلامية وضد سلامة الشعب العراقي, وقد ظهر أن بعض مرتكبي11 سبتمبر لم يكن لهم ماض في التعصب الديني, ولكن كانت لهم دوافع سياسية. ومع وضوح هذه الحقيقة إلاأن أمريكا رفضت الاعتراف بها وكررت تفسيرات غامضة مثل كراهية الارهابيين للحرية وللتقدم وللغرب. مع أن المواجهة الصحيحة للارهاب كانت تفرض علي أمريكا العمل علي محورين: الأول مواجهة الارهاب, والثاني: عمل سياسي لازالة التوتر في الشرق الأوسط.. وهذه هي الاستراتيجية الصحيحة لعزل واقصاء الارهاب.
وربما هناك تشابه بين الأزمة الحالية التي تعيشها أمريكا بسبب الارهاب, والازمات التي تفجرت من داخل المجتمع الامريكي ذاته في الستينيات والسبعينيات وجعلت المجتمع الأمريكي يهتز بسبب العنف الذي كانت تقوده عدة جماعات مثل كلو كلوكس كلان, وجماعات المواطنين البيض, والنمور السود, وجيش التحرير, ولم تتم مواجهة هذا العنف الا بإجراءات سياسية مثل التشريعات الخاصة بحقوق الانسان والمساواة بين البيض والسود, وتغيير الاتجاهات العنصرية التي كانت سائدة. وبالنسبة لأحداث سبتمبر فإن الخطأ الذي ارتكبته الادارة الأمريكية هو لجوؤها إلي أسهل الحلول بإرجاع الارهاب إلي سبب واحد, وهذا التحليل ذو البعد الواحد يدل علي ضيق الأفق, وقد أعطي لدول أخري ذريعة لمحاربة المعارضين لها واعتبارهم ارهابيين,
وهذا ما يفعله شارون فإنه عندما يتحدث إلي الأمريكيين لا تخلو جملة من حديثه من كلمة الارهاب, وهو يعمل بذلك علي تحويل صراع أمريكا ضد الارهاب إلي صراع أمريكي اسرائيلي مشترك ضد المسلمين, وهذا ما يفعله الرئيس الروسي بوتين عندما يتحدث إلي الأمريكيين عن الشيشان ولذات الهدف. وشارون يشعر بالسعادة كلما حدث توتر في علاقات أمريكا بالسعودية كما أنه سعيد بالحرب الأمريكية ضد العراق وسعيد بحصوله علي ضوء أخضر من أمريكا لقمع الفلسطينيين تحت شعار محاربة الارهاب,
وهذا ما يفعله أيضا كل زعيم يواجه صراعا سياسيا مع طرف اسلامي في العالم. وهكذا أمكن سرقة حرب أمريكا علي الارهاب وتحويلها إلي أغراض أخري, لأنها لم تحدد بالضبط في اطار سياسي, وعواقب ذلك ستكون خطيرة, حيث تبدو أمريكا أمام حلفائها الديمقراطيين في أوروبا وآسيا متبلدة أخلاقيا, وساذجة سياسيا, وغير قادرة علي فهم الأسباب الحقيقية للارهاب, وأنها تمارس العنف والتعصب لقمع الأعمال الوطنية للشعوب, وكل هذا سيؤدي إلي خفض التأييد العالمي لسياسات أمريكا.. وستتأثر قدرتها علي الاحتفاظ بائتلاف ديمقراطي لمواجهة الارهاب.. ولن تجد المساندة الدولية لأي مواجهة عسكرية.. وسوف تزداد احتمالات تعرضها للانتقام والارهاب.. وعلي أمريكا أن تركز علي الأسباب السياسية للارهاب في الشرق الأوسط.. ولا تكتفي بالحرب ضد الأعراض والظواهر الناتجة عن هذه الأسباب.
وهذا صوت أمريكي آخر يصل إلي ما أعلنته مصر عقب أحداث سبتمبر.. وتثبت الأيام أن رؤيتها كانت هي الرؤية الصحيحة.