سور برلين الجديد

عندما احتفل العالم بازالة سور برلين قيل ان آخر رمز لعصر الاحتلال قد انتهي الي الابد‏,‏ وان البشرية تبدأ عصرا جديدا من الحرية لكل الشعوب‏,‏ ولكن هانحن نشهد السور الجديد الذي تقيمه اسرائيل رمزا للفصل العنصري‏,‏ واستمرار الاطماع التوسعية في الاراضي العربية‏,‏ وترسيخ العدواة‏.‏

ولذلك كان الرئيس عرفات محقا عندما وصف هذا السور بأنه سور برلين الجديد‏,‏ لانه سوف يفصل بين المحتلين والخاضعين للاحتلال‏,‏ وبين من لهم الحق في الحركة والتعليم والعمل والحياة ومن ليست لهم هذه الحقوق‏,‏ وهو تكريس لعملية اغتصاب جديدة لاراض فلسطينية تحت سمع وبصر العالم‏,‏ وبالرغم من تصريحات الرئيس بوش بأنه سيكون عقبة في طريق السلام‏.‏ بلا شك تعبير عما تخفيه اسرائيل عن حدود الدولة عندما يأتي الدور عليها في مفاوضات الحل النهائي اذا استمرت المفاوضات‏,‏ والهدف الاول لهذا السور هو وضع تعقيدات جديدة لجعل الحل النهائي مستحيلا‏,‏ وهذا بالضبط مايريده أرييل شارون رئيس وزراء اسرائيل الذي يريد ان ينهي حياته في صورة البطل القوي الذي وضع نواة اسرائيل الكبري‏,‏ ويريد ابقاء كل الخيارات امامه مفتوحة بما فيها اغتصاب مزيد من الاراض الفلسطينية‏,‏ وتكريس السيادة الاسرائيلية علي الشعب الفلسطيني‏,‏ وقد يكون بداية‏,‏ لتنفيذ اجندة خفية يجري الاعداد لكشف النقاب عنها‏.‏


وهذا السور الذي يرمز الي سياسة العزل العنصري الاسرائيلية مرتبط بموضوع المستوطنات‏,‏ وعندما اجتمع الرئيس بوش مع شارون في واشنطن منذ ايام طلب منه بوش تجميد عملية المستوطنات ووقف بناء السور‏,‏ ولكن شارون واجه طلب بوش بصلف‏,‏ واعلن في المؤتمر الصحفي في البيت الابيض وامام الرئيس بوش انه سيستمر في بناء السور‏,‏ وبدا وكأنه لم يستمع الي مناشدة الرئيس الامريكي بوقف المستوطنات‏.‏

وشبكة المستوطنات التي انشأتها الحكومة الاسرائيلية اخيرا وتدعي انها بؤر استيطانية عشوائية مؤقتة‏,‏ هي في حقيقتها كما قال الكاتب الاسرائيلي ديفيد نيومان الاستاذ بجامعة بن جوريون عبارة عن مجموعة مدن صغيرة‏,‏ ومناطق صناعية وتجارية ومدارس وكليات وطرق ومراكز للخدمات العامة‏,‏ وان من يراها علي الطبيعة يدرك انها اقيمت لتبقي الي الابد‏.‏


لكن اسرائيل ـ كعادتها ـ تتحدث بأكثر من منطق وأكثر من لسان‏,‏ وتعطي للعرب وللعالم اشارات متناقضة‏..‏ صيحات الحرب ونداءات السلام في وقت واحد‏..‏ وهذه المتناقضات التي يقال انها توزيع ادوار تنفذ ببراعة‏,‏ ويقال انها تعبير عن تناقضات في تكوين الاسرائيليين واختلاف ثقافاتهم‏,‏ ويقال انها تاكتيك لاثارة جو الغموض والارتباك لدي الآخرين‏,‏ وابقاء جميع الطرق مفتوحة امام اسرائيل لتسلك الطريق الذي تريده في الوقت الذي تراه مناسبا لذلك‏,‏ وتكون هذه الطرق بالنسبة للآخرين اشبه بالمتاهة وكلها تؤدي بهم الي لاشيء‏!‏ من ذلك استطلاع الرأي الذي نشر اخيرا وأظهر ازدياد عدد المستوطنين الموافقين علي ترك المستوطنات اذا حصلوا علي تعويضات كبيرة بينما‏29%‏ من المستوطنين ابدوا استعدادهم لترك المستوطنات فورا‏,‏ و‏71%‏ من هؤلاء يعتقدون انهم سوف يضطرون علي اي حال الي ترك المستوطنات اذا تم التوصل الي اي اتفاق سلام‏.‏ ومعلوم ان عدد سكان هذه المستوطنات يزيد علي‏250‏ الف معظهم من المتشددين المسلحين ويعارضون مجرد التفكير في عقد اتفاق سلام مع الفلسطينيين من منطلق ايديولوجي عقائدي وعنصري‏,‏ وهم مطمئنون الي ان شارون صاحب استراتيجية التوسع في بناء المستوطنات في الاراضي الفلسطينية لتغيير طبيعة الارض‏,‏ واقامة واقع جديد يصعب تغييره‏,‏ وقد نفذ هذه الاستراتيجية بقوة عندما كان وزير المستوطنات‏,‏ وضاعف المستوطنات خلال فترة رئاسته للحكومة‏,‏ ويعتقد المستوطنون ان شارون لن يتخلي عن تاريخه وعن وعوده وبرنامجه الذي انتخب بناء عليهما مرتين‏,‏ ويعتقدون ايضا انه لن يكرر مافعله عندما كان وزيرا للدفاع في اوائل الثمانينيات وأشرف بنفسه علي ازالة المستوطنات في شمال سيناء‏..‏ بل ان بعض المستوطنين غاضبون لأن السور الذي يقيمه شارون قد يحول دون التوسع في بناء مزيد من المستوطنات علي أراضي الفلسطينيين‏!‏


في الوقت نفسه فإن بعض المستوطنين كما يذكر البرفيسور ديفيد نيومان ـ يقولون‏:‏ اذا كنا سنخرج من هذه المستوطنات يوما فلماذا لانخرج الآن بشكل منظم والي مواقع اكثر أمنا واستقرارا داخل اسرائيل‏,‏ ونحصل علي تعويض مناسب منالحكومة بدلا من الانتظار الي اللحظة الاخيرة ثم يكون علينا ان نغادر علي عجل ونضطر الي التدافع بحثا عن مساكن‏,‏ ومدارس‏,‏ ووظائف في اماكن اخري‏.‏

السور العازل‏,‏ والمستوطنات‏,‏ تعبير عن عدم حسن النية تجاه السلام‏.‏ ورفض اليد الممدوة بالسلام رسميا من العرب جميعا منذ القمة العربية الاخيرة في عمان لانه منطقيا لايتفق قيام سلام مع وجود نيات للعدوان بأي صورة‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف