بطرس غالى بعد عامه التسعين (2 - 2)

لم يغير الدكتور بطرس غالى كثيرا من أفكاره ومواقفه، فهو لا يزال على قناعته التى آمن بها وهو فى الثمانية والسبعين.. والستين.. وما قبلها، وبالطبع زادته السنون حكمة على حكمته، وخبرة على خبرته، والأهم من ذلك أنها زادته شعورًا بالتفاؤل بأن المشاكل والأزمات سوف تجد الحلول وتنتهى، وتنشـأ مشاكل وأزمات أخرى وتنتهى أيضا، وهكذا الحياة، ألم يقل الله سبحانه وتعالى «لقد خلقنا الإنسان فى كبد» ؟ لايزال الدكتور بطرس غالى يؤمن بأن التسامح يكون فى أوقات أهم من العدالة، ويفسر ذلك بأنه من خلال التسامح يمكن نسيان الماضى ويكون ذلك هو السبيل للاستقرار.
ولايزال يحلم بالوحدة العربية ويرى أن تحقيقها ابتعد قليلا ولكنه مازال ممكنا بل إنه فى الحقيقة أمر لامفر منه للإبقاء على الأمة العربية فى عالم لن تصمد فيه للعواصف القادمة مع العولمة إلا الكيانات الكبيرة أما الكيانات الصغيرة فسوف تقع فريسة للذئاب(!) ويقول: كنت أحلم بأن أرى فى حياتى إقامة الولايات العربية المتحدة على مثال دولة الولايات المتحدة الأمريكية وكان الحلم يصاحبنى منذ كنت طالبا فى كلية الحقوق ودافعت كثيرا عن الوحدة العربية من خلال موقعى كأستاذ فى الجامعة، ومحاضرفى الجامعات الأوربية، ومتحدث فى المحافل الدولية، ووزير فى الحكومة المصرية، وسكرتير عام للأمم المتحدة، وأمين عام لمنظمة الفرانكفون.. دافعت دائما عن الوحدة العربية ومازلت أثق فى أنها ستحقق ولو بعد مائة سنة، لأنى لا أتصور أن تبقى هذه الكيانات مع وحدتها الجغرافية واشتراكها فى المصالح وفى مواجهة المخاطر والأطماع، وبينها سمات توحدها، وإلى أن أموت سأظل أحلم بالوحدة العربية فى شكل ولايات متحدة على غرار الولايات المتحدة، وحينئذ سيكون للعرب صوت يدوى فى العالم، وكلمة لاترد، وحقوق لاتغتصب، سيكون للعرب شأن آخر فى الساحة الدولية. وتنتهى حالة الضعف التى وصلت اليها الدول العربية، وتنتهى الخلافات بينها التى جعلت التأثير العربى أمام الجانب الإسرائيلى وأمام العالم ضعيفا، واذا ظلت هذه الدول منقسمة فمن الصعب مساعدة فلسطين بل إن هذا الضعف سوف يزيد تأثيره السلبى على العالم العربى.
ويتذكر تحول بعض المفكرين الذين كانوا متحمسين للوحدة العربية ثم أصابهم اليأس وفقدوا الأمل فى تحقيقها، ويذكر يوما من يوليو 1997دعى إلى غداء فى سفارة مصر فى باريس وكان من بين الحاضرين لطفى الخولى، وهو مناضل يسارى سجن أيام حكم عبد الناصر، ومعرفتهما ببعض قديمة وودية، كان مكتب لطفى الخولى وبطرس غالى فى نفس الطابق فى مبنى الأهرام، وكان الدكتور بطرس رئيساً لتحرير مجلة (الأهرام الاقتصادى) ومجلة (السياسة الدولية) وكان لطفى الخولى رئيسا لتحرير مجلة (الطليعة) التى كان الأهرام يصدرها لتعبر عن اليسار المصرى، وكان لطفى الخولى يقول له دائما: أنت تمثل الرجعية المستنيرة وكان الدكتوربطرس يقول له: وأنت تمثل اليسار الذى تخطاه الزمن، وبعد سنوات التقى الاثنان فى موسكو وكان الدكتور بطرس يزورها بصفته رئيسا لجمعية الصداقة المصرية السوفيتية فقال له لطفى الخولى بلهجته الساخرة المحببة: لا عجب أن تكلف بملف العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتى الآن بعد أن ماتت الشيوعية. أما أثناء الغداء فى السفارة الفرنسية فكانت المفاجأة فى حضور سفراء الدول العربية أن ارتفع صوت لطفى الخولى قائلا: العروبة ماتت، ووحدة العالم العربى حلم لن يتحقق فى جيلنا، وبالطبع سبب ذلك حرجا للسفراء العرب، فانطلقوا يتحدثون عن حتمية الوحدة العربية فصاح لطفى الخولى: لاأحد يأخذكم فى الحسبان.
وتصاعد النقاش، وانصرف الجميع عن الطعام لولا أن تدخل السفير المصرى على ماهر صاحب الدعوة بالحديث عن رأيهم فى الطعام وعن ارتفاع أسعار ربطات العنق فى باريس (!).. وهكذا وصل الحال بمن كانت قضية حياتهم هى قضية الوحدة العربية وانتهوا إلى حالة من اليأس، أما الدكتور بطرس غالى فإنه ثابت إلى اليوم على يقينه بأن الوحدة العربية هى المصير الذى لامهرب منه، وإذا تأخر فسوف يتحقق أخيرا.
???
ويذكر الدكتور بطرس غالى يوم3 يناير 1999 فى هذا اليوم الذى لاينساه أنه التقى مع الدكتور أسامة الباز المستشار السياسى لرئيس الجمهورية فى ذلك الوقت، وفى حواره معه قال:للدكتور أسامة: إنكم تهملون ملف السودان وأفريقيا ومشكلة مياه النيل. لقد تخليتم عن أى حضور فاعل فى منظمة الاشتراكية الدولية منذ أن استقلت من منصبى فيها كنائب للرئيس عام 1991، وكان الدكتور أسامة يكتب بعض الملاحظات ويكتفى بهز رأسه ويقول عبارة من هنا وعبارة من هناك،وبعد يومين أى فى5يناير 1999 التقى الدكتور بطرس بوزير الخارجية (عمرو موسى فى ذلك الوقت) وكتب فى مذكراته: بعكس أسامة الباز يعى وزير الخارجية عمرو موسى أهمية الملف السودانى وادارة مياه النيل ويرى أن علينا تكريس كل جهدنا لتوطيد العلاقات مع السودان وأفريقيا وهو موضوع كان له الأولوية دائما فى نظر الدبلوماسية المصرية، ولكن عمرو موسى قال يومها: للأسف هذا الملف ليس من اختصاص وزارة الخارجية وحدها ولكن أصبح من اختصاص عدة سلطات.. رئاسة الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، ووزارة الخارجية،ووزارة الرى، وجهات أخرى، وهناك خشية من أن توزع جهودنا بدلا من تركيزها فى جهة واحدة.
???
لكن الدكتور بطرس غالى مثل كل الناس يتعرض فى أوقات للشعور بأنه دخل معارك خاسرة وبعد فترة يعود إلى قدرته على مواصلة هذه المعارك دون أن يستسلم لليأس فهو يكتب من باريس فىيناير 2001 يقول فىحوار مع النفس: لابد أننى أنزع إلى تعذيب نفسى باصرارى على الدفاع عما لا يجدى الدفاع عنه..الدفاع عن السلام فى الشرق الأوسط بينما لايزال الأمل فىتحقيق هذا السلام بعيدا..والدفاع عن الأمم المتحدة بينما تزداد ضعفا يوما بعد يوم.. والدفاع عن الفرانكفونية.. وعن حوار الثقافات.. وعن التضامن بين دول الشمال ودول الجنوب بينما تفرز العولمة المتوحشة أيديولوجيا التنميط والأنانية الضيقة.
لحظة الشعور بخيبة الأمل فى حياة بطرس غالى لحظة عابرة لأن تكوينه يتميز بقوة الارادة والتفاؤل حتى فى أحلك اللحظات والدليل على ذلك أنه فى أغسطس 1999 دخل مستشفى فال دو جراس فى باريس لإجراء فحص عام. ويشمل صورا بالأشعة وفحص الدم وتصوير اشعاعى، وجاءت النتيجة وجود ورم لمفاوى من الدرجة الأولى وغير متطور، واسفرت مناقشة الأطباء عن عدم الحاجة إلى التدخل بأى علاج لهذا الورم الا اذا ظهرت علامات تدل على تطوره، وأخذوا عينة من جسمه لتحليلها فتأكدوا منها صحة تشخيصهم، وعاد الدكتور بطرس غالى إلى نشاطه المتعاد دون أن يتأثر ومازال إلى اليوم يقاوم باصرار وبقوة الارادة ويرفض أن يستسلم.
وحين نتساءل كيف وجد بطرس غالى الوقت لكتابة كل هذه الكتب والمقالات والأبحاث التى تزن أطنانا يجيب إن الكتابة تمنحنى متعة كاملة ونوعا من الفرح يصعب تحليله حتى إننى أجد لذة فى التعب الذى أحس به بعد ساعات من الكتابة.. ومثل كبار الكتاب يقول: أحب أن أقرأ ماكتبته واستمتع بذلك كما استمتع بصورتى فى المرآة بعد الحلاقة! ومثل كل من ضيعوا أعمارهم فى العمل والكتابة يقف لحظة ليقول: اسأل نفسى إن لم يكن الوقت قد حان للعزوف عن كل هذه الاجتماعات والبدء بتعلم التمتع بالحياة والاستمتاع بالطبيعية وبمشهد الغابات وغياب الشمس فى الصحراء ورمالها المذهبة.. لكن هذه أمنية لايستطيع مثله أن يحققها لأنهم خلقوا للعمل وليس للهو.. وقد سافر إلى جميع دول العالم مئات المرات ولكن للعمل وللقيام بواجب ما.. ولكنه يسافر ويسافر ويغيب عن مصر كثيرا ثم يعود اليها ليقول: لحظة هبوط طائرتى فى القاهرة تنتابنى دائما وأبدا نفس المشاعر :نوع من رعشة الحنين.. وشعور بالخيانة.. والوم نفسى،ويلومنى أصدقائى على غيابى المتكرر فى(بلاد بره) .. وفى كل مرة أقرر البقاء فى القاهرة لأنى أحبها.. واخيرا تمكن من تحقيق أمنيته وها هو يقيم فى القاهرة ليفتح نافذته كل صباح ليرى النيل ويقول: الله.. هذه هى الجنة.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف