فلسفة إعداد القادة

شكو مر الشكوي من إهمال جيل الكبار للشباب‏..‏ ونشكو من أن ما يقدم للشباب من رعاية وخدمات أقل بكثير مما يجب تقديمه‏..‏ والحقيقة أن ظواهر السلبية والانحراف وعدم الانتماء وغيرها من الظواهر السائدة بين الشباب المسئول عنها هم الكبار لأن هذه من نتائج تقصيرهم‏.‏

لكن الشكوي الأكبر من عدم وجود فلسفة واضحة لاكتشاف العناصر ذات الاستعداد القيادي مبكرا ورعايتها وتزويدها بالقدرات والمهارات التي تساعد علي نمو شخصيتها وفكرها القيادي‏.‏


وفي دول متقدمة معاهد وبرامج ومقاييس للقدرات القيادية منذ الطفولة‏,‏ وتعهدها في مراحل الإعداد لتكون مستعدة لتولي القيادة فعلا في أي موقع تصلح له عندما يحين الوقت المناسب لذلك‏,‏ لكن ما يحدث عندنا أن اكتشاف القيادات لا يتم إلا صدفة‏,‏ عندما تستطيع هذه القيادات الناشئة التسلل من الحصار المفروض عليها من جيل الكبار‏,‏ وقد أصبحت لدينا فلسفة ومنهج متكامل وقدرة خارقة لقتل المواهب ووقف نمو البراعم التي تبشر بأن تكون قيادات فيما بعد‏,‏ لذلك سادت فكرة‏:‏ إذا ذهب رجل فلن نجد من يحل محله‏,‏ وهذا يعني أن عملية تفريخ القيادات قد توقفت‏,‏ ولا يعني ذلك إلا الإقرار بفشل القيادات الحالية في القيام بمسئوليتها‏,‏ عن إعداد أجيال جديدة من القيادات‏.‏

ومنذ أيام أتيح لي أن أقضي يوما كاملا في معهد إعداد القادة في حلوان مع قيادات من طلبة الجامعات‏,‏ ومن خلال الحوار التلقائي غير المخطط‏,‏ الذي لم يسبق إعداد سيناريو له‏,‏ اكتشفت أن الذين يقولون إن الشباب الآن فاقد الأهلية للقيادة‏,‏ وأنه غير مهتم بالقضايا العامة‏,‏ ولا يشعر بالانتماء والولاء للوطن‏,‏ وأنه شباب سلبي يبحث عن المال كقيمة عليا‏,‏ ولا ينظر إلي العمل أو الإنجاز علي أن كلا منهما قيمة في ذاته‏,‏ وأنه يبحث عن اللهو وينصرف عن الجد‏..‏ إلي آخر ما يقال عن الشباب‏..‏ اكتشفت أنه ليس علي النحو الذي يتحدث عنه الشيوخ‏..‏ أو علي الأقل لا يمكن تعميمه علي كل الشباب‏..‏ لأني وجدت في هذا المعهد شبابا جادا‏,‏ مثقفا‏,‏ متابعا لتطورات الأحداث‏,‏ لديه قدرة علي التحليل والنقد‏,‏ يسعي إلي الحوار بحثا عن اليقين أو الصواب بشرط ألا تفرض عليه أفكار جاهزة‏,‏ وألا يكتفي بتلقينه شعارات جوفاء يدرك أنها لا تمثل إضافة حقيقية بالنسبة له‏.‏


والانطباع الذي خرجت به من هذا اللقاء الطويل هو أن الكبار مقصرون تقصيرا شديدا في حق الشباب‏..‏ والمسئولون عن الشباب مشغولون ومثقلون بمسئوليات كثيرة فلا يجدون الوقت لمعايشة الشباب أو الاقتراب منه‏..‏ ولا يجدون سوي ساعة أو ساعتين يجلسون خلالهما علي منصة عالية‏,‏ ويلقون ما لديهم وكأن أفكارهم هي غاية المنتهي وليس هناك ما يمكن إضافته إليها‏,‏ أو حتي مناقشتها‏..‏ والشباب لا يمكن أن يقبل الأفكار المعلبة الجاهزة أو سابقة التجهيز‏..‏ وهو بطبيعته يسأل كثيرا‏..‏ ويتشكك كثيرا‏..‏ ويطالب بأدلة وبراهين وشواهد علي كل رأي يقال‏..‏ وهذا حقه‏..‏ لأنه في دور التكوين‏..‏ وهو يريد أن يكون تكوينه العقلي والفكري قائما علي الوقائع الصحيحة المؤكدة‏,‏ وعلي المنطق العقلاني‏,‏ وعلي التحليل المنهجي‏,‏ وعلي البدء بالشك بحثا عن اليقين‏..‏

وليس لدي جيل الكبار الوقت والصبر لكل ذلك‏,‏ فهم مشغولون بمناصب ومسئوليات كثيرة لا يمكنهم التفريط فيها أو الانتقاص منها‏..‏ ليس لديهم سوي القاء خطبة ثم الانصراف‏.‏


ومن هنا تأتي أهمية معاهد إعداد القادة بشرط ألا تكون الدورة بضعة أيام في العمر كله‏,‏ لكن يجب أن يكون هناك منهج متكامل يبدأ باكتشاف الاستعداد القيادي في جميع المجالات لدي الشباب‏,‏ وقياس الشخصية بوسائل علمية وفنية معروفة‏,‏ ومتابعة تنمية الصفات القيادية في الشاب مرحلة بعد مرحلة‏..‏ وفتح الطريق أمامه للارتقاء في هذه المراحل‏,‏ وتولي مواقع قيادية في المدرسة أو الكلية أو في مجال العمل‏..‏

ولو فعلنا ذلك‏,‏ وكانت لدينا سياسة طويلة الأجل‏,‏ وقدرة علي الاستمرار‏,‏ فلن نشكو من أن الرجل الذي يذهب لن نجد بديلا له‏..‏ لأنه سيكون له ألف بديل‏..‏ وعبقرية مصر أنها لا تخلو أبدا من براعم العبقرية‏..

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف