بطرس غالى بعد عامه التسعين (1 -- 2 )

فى يوم احتفاله ببلوغ سن التسعين ظهر الدكتور بطرس غالى وهو يسير متوكأ على عصاه، بينما كان بادى الحيوية وابتسامته الدبلوماسية لم تفقد بريقها، وقال: أنا مازلت شابا، وأمارس حياتـــى الطبيعية، وأحضر المؤتمرات التى أدعى إليها فى الخارج وفى الداخل وألقى فيها كلمات، ومستمر لآخر دقيقة من حياتى فى خدمة مصر.
كان فى حالة من التألق الذهنى تعيد إلى الذاكرة ما رأيته عليه وهو نائب وزير الخارجية ثم وهو وزير الدولة للشئون الخارجية ومسئول ملف أفريقيا التى كان يتحرك فى دولها كأنه فى بيته، ويتعامل مع رؤسائها ووزرائها على أنهم أصدقاؤه الشخصيين، وكان نجاحه فى توثيق علاقات مصر بدول أفريقيا يمثل صفحة ناصعة فى تاريخ الدبلوماسية المصرية.. أما بالنسبة لى فقد أعادت هذه المناسبة إلى ذاكرتى فترة السبعينيات، حين كنت أحرر باب «مع القانون» فى الأهرام- ولم تكن الصحافة المصرية تقدم الثقافة القانونية ولكنها بدأت بعد ذلك فى تقليد هذا الباب بأسماء مختلفة- فى هذه الفترة كان الدكتور بطرس غالى استاذا من الرعيل الأول لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، واختاره الأستاذ محمد حسنين هيكل برئاسة تحرير مجلة الأهرام الاقتصادى، ودعانى الدكتور بطرس إلى مكتبه فى الأهرام وأبدى إعجابه بباب مع القانون وبالتحقيقات التى كنت أجريها مع كبار رجال القضاء والقانون، وطلب منى أن أحرر صفحتين فى الأهرام الاقتصادى بعنوان «مستشارك القانونى» للمساهمة فى نشر الثقافة القانونية، ومن حسن الحظ أن باب مع القانون وباب مستشارك استمرا إلى اليوم ويحررها زملاء ناجحون.. وبعد ذلك صار الدكتور بطرس نائبا لوزير الخارجية ثم وزير دولة للشئون الخارجية وواحدا من أبرز الخبراء فى شئون أفريقيا ودول الفرانكفون، إلى أن شغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة وكنت أعلم من مصادر موثوق بها جدا أن الدكتور عصمت عبد المجيد هو المرشح لهذا المنصب. ومن موقعه الدولى فى الأمم المتحدة كان يتابع كل ما يجرى فى مصر، ويحتفظ بصلاته بكل أصدقائه ومعارفه فى مصر، وحين كنت أذهب إلى نيويورك كان يحرص على دعوتى للغداء أو العشاء ويجيب على كل ما لدى من أسئلة واستفسارات، وكذلك كان يفعل مع جميع الزملاء، وكان مشهورا بأنه على صلة بعدد كبير جدا من الصحفيين فى أنحاء العالم، وكان يقال «طبعا فهو فى الأصل صحفى».
***
عند بلوغه التسعين تبرع بمكتبته وفيها أكثر من 2500 كتاب بلغات مختلفة إلى مكتبة الاسكندرية. وفى حديث أخير مع الزميلين هدى رشوان ومحمود حسونة قال كلاما يستحق أن يكون موضع اهتمام المسئولين والمفكرين. منه مثلا: «إن قضايا حقوق الإنسان تغيرت فى مصر ومنها حرية الصحافة، وخلال مدة رئاستى للمجلس القومى لحقوق الإنسان نجحنا فى التعامل مع بعض القضايا،وفشلنا فى قضايا أخرى، وفى الحقيقة نحن بعيدون كل البعد عن خريطة حقوق الإنسان العالمية لأننا كنا منغلقين على أنفسنا فى الوقت الذى أصبحت فيه قضايا حقوق الإنسان، وجامعات خاصة بالقانون الأنسانى، ونحن مازال الطريق أمامنا طويلا.. أما السياسة الخارجية لمصر فلم يكن لها وجود قبل ثورة 25 يناير،والتفكير الدبلوماسى المصرى مازال ينظر إلى الشمال متجاهلين الجنوب الذى ظهرت فيه قوى أخرى منها الصين، والهند، وإندونيسيا، واستراليا،واليابان. والدبلوماسية المصرية حاليا متجمدة.. ولابد أن ندرك أن مشكلات مصر لايمكن حلها فى الداخل وتتطلب تعاون دول أخرى... أما ما يقلقنى فهو تزايد مشكلة المياه والانفجار السكانى ومصر غير موجودة فى أفريقيا.. عاقبتنى أمريكا فرفضت تجديد مدة ثانية لى كأمين عام للأمم المتحدة وكانت هذه رسالة عنى سيأتى بعدى إن لم تذعن للقوة العظمى فانظر ماذا فعلنا ببطرس غالى.
***
بطرس غالى ليس دبلوماسيا وسياسيا فقط ولكنه مفكر عالمى بمعنى الكلمة وقام بدور كبير فى الدفاع عن العالم العربى والإسلامى فى مواجهة الاتهامات التى تملأ الساحة فى الغرب بأن الإرهاب فى العالم ناتج عن عقائد المسلمين، وفى كل مناسبة دولية يعلن أنه لايكفى الهجوم على الإرهاب بل يجب أن نعالج أسبابه وأن نقر بأن الإرهاب يرجع إلى أسباب عميقة منها فقدان الأمل لدى الشباب وغطرسة الأغنياء سواء كانت الدول الغنية أو أفراد الطبقة الغنية فى المجتمعات، ومن أسباب انتشار الإرهاب ضغوط الغرب على العالم العربى والإسلامى لفرض نموذج ثقافى واقتصادى يؤدى إلى تهميش مئات الملايين من أبناء هذه الشعوب. وأمام اللجنة الفرنسية للتضامن الدولى قال:« إن البؤس يولد الكراهية»، ولكن فى الغرب يرون أن الإرهاب له سبب آخر... يرون أن الإرهاب نتيجة عجز العالم الإسلامى عن أن يجد طريقه إلى الحداثة، وهذه النظرية قديمة تعمقت فى العقل الغربىعلى يد المستشرقين منذ فترة الاستعمار الغربى للعالم العربى والإسلامى، فقد رسموا للعالم الإسلامى لوحة متجمدة فى الزمن الماضى.. لوحة العالم لايتحرك وعاجز عن التطور. وخلاصة تجربته ومعرفته بالغرب يرى الدكتور بطرس غالى أن السياسة الاستعمارية تجاه الإسلام قامت على ثلاثة أفكار:
أولا: إن هناك اختلافا عميقا لايمكن تخطيه بين الغرب الحديث العقلانى والشرق المسلم المتسم بالفوضى والتخلف وعقلية العصور الوسطى.
ثانيا: إن الشرق مستمر فى حالة العجز وغير قادر على التطور.. فهو عاجز عن أن يحدد هويته، وعاجز عن أن يجد طريقه وحده، وعاجز عن الاستفادة بالعلوم الحديثة من الغرب ليحقق التحديث.
ثالثا: إن سياسة الغرب يجب أن تقوم على الخشية من العالم الإسلامى ومراقبته باستمرار.
هذا المنطق الاستعمارى فى رأى الدكتور بطرس غالى كان مقدمة لسياسة الغرب للسيطرة والاستغلال للعالم العربى والإسلامى أكثر منه دعوة للتحديث، وسياسة السيطرة هذه هى التى تشعل غضب العالم الإسلامى، وخبراء شئون الإسلام الجدد فى الغرب يستمرون فى تسميم العلاقات بين الشعوب، وتعميق فكرة الصراع بين الحضارات، وهم يصورون للعالم الغربى أنه ليس هناك إرهاب سوى الإرهاب الإسلامى متجاهلين أنه فى نفس اللحظة التى حدثت فيها اعتداءات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة كان إرهاب نمور التميل فى سريلانكا وإرهاب منظمة «إيتا» الإسبانية، وإرهاب القوات الثورية المسلحة فى كولومبيا».
هكذا كان- ولايزال- الدكتور بطرس غالى يواجه الاتهامات الظالمة التى توجه إلى العالم الإسلامى، فهو يتحدث إلى مؤتمر دولى فيقول: إن الرأى العام الدولى تأثر بمعاناة ضحايا الحادى عشر من سبتمبر الذين بلغ عددهم خمسة آلاف، لكنه لم يتأثر بالخمسمائة ألف من ضحايا الحروب والقصف على الشعب الأفغانى والشعب العراقى. ووسائل الإعلام الدولية وكبار المسئولين فى دول الغرب يعملون على التستر على ما يحدث للفلسطينيين، وكل همهم أن يؤكدوا أن اعتداءات سبتمبر وغيرها ليس لها علاقة مباشرة بالمشكلة الفلسطينية، وهذا تزييف للحقيقة، فإن القهر الواقع على الشعب الفلسطينى له صدى عالمى، وأكثر من مائتى مليون عربى وأكثر من مليار مسلم يشعرون بالسخط على إذلال الشعب الفلسطينى، وسوف تستمر المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية فى تسميم وتدمير العلاقات بين العالم العربى والإسلامى وبين العالم الغربى، وجزء كبير من الرأى العام العربى يشبّه دولة إسرائيل بسرطان يسرى فى جسم الأمة العربية، والحقيقة أن الصراع العربى الإسرائيلى بكل عوارضه هو الذى يسبب هذا الشعور، وهو أيضا الذى يسبب معاداة أمريكا.. ويسبب الإرهاب.
***
والدكتور بطرس غالى لديه تشبيه يكرره دائما فى أحاديثه فى المؤتمرات واللقاءات الدولية، يشير فيه إلى المدينة الفاضلة للفارابى والمدن الفاضلة التى يتكون منها الكوكب الفاضل فى نظريات الفلاسفة، ولكن نظرا للحالة التى تسود العالم حاليا لايوجد حل فاضل من الناحية العلمية إلا بالتوصل إلى (الجمع والتوليف) بين الهوية الثقافية والمواطنة العالمية.. وتحقيق هذا الجمع والتوليف هو التحدى الحقيقى لهذا القرن وإذا استطاعت الأمم المتحدة نشر وعى جماعى بفكرة « المواطنة العالمية» تكون قد حققت مبرر وجودها.
وتأتى بعد ذلك ضرورة حل المشاكل الناتجة عن العولمة.. الهوة بين الشمال والجنوب..ومشكلة الديون.. والحروب القبلية والدينية.. والأمراض والأوبئة.. ومشكلة الفقر.. كل هذه المشاكل يمكن حلها إذا سادت فكرة المواطنة العالمية التى تجعل المواطنين فى أوروبا وأمريكا يشعرون بمسئوليته عن المواطنين فى أفريقيا وبقية العالم الثالث..
هذا هو بطرس غالى فى التسعين.. سياسى.. ودبلوماسى.. ومفكر.. مصرى..عربى.. عالمى.. مسيحى يدافع عن الإسلام والمسلمين وحقوقهم.. مثقف عالمى.. وأستاذ جامعى.. وصحفى.. ومؤلف عشرات الكتب لابد أن نعود إليها لأن فيها الكثير من الفكر والكثير من المعرفة.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف