أسرار السياسة الأمريكية
لاأحد يستطيع فهم المواقف المعقدة للسياسة الأمريكية في هذه الأيام سوي الأمريكيين أنفسهم,وبخاصة من كان منهم قريبا من خزائن الأسرار, ومواقع القرار, ولذلك أعتقد أن قراءة مابين السطور فيما يكتبه هؤلاء أكثر فائدة من كثير من اجتهادات من يكتبون عن بعد.
وعلي سبيل المثال فقد كتب توماس فريدمان مقالا نشرته صحيفة هيرالد تريبيـون يــوم6 ينـاير الحالي بعنوان: نعم.. حرب من أجل البترولقال فيه إن شن الحرب الأمريكية علي العراق سواء كانت حربا سياسية أو حربا عسكرية فإن هدفها هو البترول, وإلا فلماذا الضغط عسكريا علي العراق برغم أنه لم يمتلك قنبلة نووية أبدا, والسعي إلي حل الأزمة مع كوريا الشمالية سلميا وبالمفاوضات برغم أنها تمتلك بالفعل قنابل نووية وصواريخ قادرة علي حملها ومداها يصل إلي الولايات المتحدة.
وأهم من توماس فريدمان قال وزير الخارجية الأسبق وارين كريستوفر الذي أسهم في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية لمدة خمس سنوات من عام1993 حتي1997 وقد كتب هو الآخر مقالا في نفس الصحيفة يوم2 يناير الحالي بعنوانكوريا الشمالية أكثر إلحاحاقال فيه إن كوريا الشمالية تقوم بشكل مذهل بإحياء برنامجها النووي, وفي نفس الوقت تواجه الولايات المتحدة التهديد الخطير من الإرهاب الدولي, وأمام هاتين الأزمتين الملتهبتين ليس أمام الرئيس بوش إلا الرجوع عن اصراره عن ضرب العراق,وإعادة ترتيب أولويات السياسة الأمريكية.
لأن قيام كوريا الشمالية بإعادة فتح مصنع البلوتونيوم في بيونج يانج يجعلها قادرة خلال ستة أشهر علي إنتاج مواد كافية لتصنيع عدد من القنابل النووية, وبالصواريخ بعيدة المدي التي تمتلكها تصبح قوة تهديد نووي لابد من أن يحسب حسابه. وكل الاختيارات أمام متخذ القرار الأمريكي محفوفة بالمخاطر وبعواقب وخيمة, ولأني شاركت في المباحثات التي توصلت إلي الاتفاق مع كوريا الشمالية عام1994 فإنني علي اقتناع كامل بأن هذه الأزمة التي أثارتها كوريا تستلزم من الإدارة الأمريكية, ومن الرئيس نفسه, التفرغ لها, خاصة أن التوصل إلي حل سياسي يتطلب جهودا دبلوماسية دائمة من أعلي مستويات الإدارة الأمريكية ونظائرها في الصين وكوريا الجنوبية, ودول أخري في المنطقة, وسوف يستغرق ذلك وقتا, وطاقة, وانتباها.
ويقول كريستوفر:ثم هناك الحرب علي الإرهاب, ولاتزال الهجمات الإرهابية الخطيرة حول العالم مستمرة من إندونيسيا,إلي كينيا والأردن, وأخيرا في اليمن حيث قتل رجل مسلح ثلاثة من الأمريكيين, وفي داخل أمريكا ذاتها لايزال الاحتمال لوقوع هجمات إرهابية قائما, ولايمكن إغفال هذا الخطر.
ويكشف كريستوفر حقيقة في دوائر صنع القرار الأمريكي,وهي أن واشنطن تعمل وفق مبدأ مستقر هو أنها غير قادرة علي التعامل مع أكثر من أزمة واحدة في وقت واحد, وعندما كنت نائبا لوزير الخارجية في إدارة كارتر ساعدت في التفاوض علي إطلاق سراح الأسري الأمريكيين في إيران,وفي ذلك الوقت غلبت هذه الأزمة علي جميع الأزمات والقضايا الأخري لمدة14 شهرا بما في ذلك الغزو السوفيتي لأفغانستان.وكذلك في السنوات الأولي لإدارة كلينتون كان التركيز علي الأزمة في البوسنة ثم الأزمة في هايتي, ولم نتمكن من إعطاء المذابح في رواندا ماكانت تستحقه من الاهتمام.
ويقول أيضا ربما يكون وزير الدفاع دونالد رامسفيلد محقا في قوله إن القوات الأمريكية يمكنها خوض حربين في وقت واحد,إلا أن خبرتي تؤكد أن الولايات المتحدة لايمكنها شن الحرب علي العراق وتظل محتفظة بالقدرة علي التركيز السياسي اللازم لمواجهة الأزمة مع كوريا الشمالية, والتهديد القائم من الإرهاب العالمي, وكل من يعرف كيفية العمل في البيت الأبيض يعلم أنه لايمكن تركيز الانتباه علي أكثر من قضية واحدة والدليل علي ذلك أن ما يجري في الأراضي الفلسطينية يمثل أزمة كبيرة بكل المقاييس,ومع ذلك فإن البيت الأبيض تركها لمساعد وزير الخارجية للتعامل معها..
وينتهي وارين كريستوفر إلي أن أي هجوم أمريكي علي العراق سيؤدي حتما إلي تأجيل قضايا السياسة الخارجية لمدة ستة أشهر علي الأقل مهما تكن خطورتها حتي إذا صدقت التنبؤات بالانتصار السريع, فسوف تنشغل الإدارة الأمريكية باحتلال العراق وإعادة بناء الدولة وفق ماتريد. فهل ستنتظر كوريا الشمالية.. وهل سينتظر الإرهاب العالمي..؟
ماذا يمكن أن نفهم من تحليل الرجل الذي عاش في مطبخ السياسة الأمريكية؟