زيارة انقاذ
جاء إخراج زيارة الرئيس جورج بوش لبريطانيا أقرب إلي الفيلم السينمائي بسيناريو أمريكي مليء بمشاهد النصر والابهار, في محاولة لاقناع الشعبين الأمريكي والبريطاني بأن بوش وبلير كانا علي صواب في حربهما علي العراق, وأنهما حققا النصر والأمن لشعبيهما بينما الحقيقة هي أن هذه الزيارة لم تكن سوي محاولة لإنقاذ بوش وبلير من الورطة السياسية الحالية التي يعاني منها كل منهما.
كان الهدف من هذه الزيارة الرسمية تصوير مشاهد تليفزيونية يري فيها الشعب الأمريكي بوش وهو يستقبل استقبال الملوك المنتصرين فهو يغزو أوروبا, ويهاجمها في عقر دارها بقوة وشجاعة لتخلفها عن السير وراءه, علي أمل أن يساعده ذلك علي تخفيف الضغط السياسي والانتقادات المتصاعدة وانخفاض شعبيته, بينما هو مشغول بحملته الانتخابية ويطمع في فترة رئاسة ثانية, لكن هذا الهدف لم يتحقق, فقد سارت المظاهرات في لندن احتجاجا علي هذه الزيارة, وشارك في هذه المظاهرات رجال ونساء من كل أنحاء بريطانيا ولم تقتصر علي سكان لندن. واستقبلته صحيفة صنداي تايمز بنشر نتيجة استفتاء اعتبر فيه60% من البريطانيين بوش خطرا علي السلام العالمي, بينما نشرت صحيفة الجارديان استفتاء لم يرحب فيه بزيارة بوش سوي43% من البريطانيين, وأبدي50% من البريطانيين عدم الاكتراث بهذه الزيارة, وقال ثلث المشاركين إن بوش يتسم بالغباء, ويوم بدء الزيارة وقف عمدة لندن وقال إن بوش هو أخطر رجل في العالم.
وامتدت موجه الاعتراض إلي الولايات المتحدة, وعلي سبيل المثال فقد نشرت هيرالدتريبيون مقالا بعنوان ابعدوا المتظاهرين عن العيون والاسماع كتبه تشارلز ليفينوسكي, وقال فيه إن الرئيس بوش عندما كان حاكما لتكساس اعتاد أن يمنع المظاهرات المعارضة له من الوقوف في الساحة المخصصة للمظاهرات السلمية أمام قصر الحاكم, وعندما أصبح رئيسا ضاعف القيود علي التعبير عن الرأي المعارض, وهذا ما فعله بلير تقليدا لبوش, فقد ابعد بلير مظاهرات الاحتجاج عن كل مكان يذهب اليه بوش حتي لا يراها ولا يسمعها, أما الذين يحملون لافتات تأييد فقد خصصت لهم أماكن علي جانبي الطرق التي يمر بها موكب الرئيس.
وقد أشار إلي ذلك مرشح ديمقراطي سابق عن ولاية أوريجون- أراد التعبير عن رأيه في رفض حرب العراق- هو بيتر باكلاي فقال: لم يسمح لنا بالوجود في أي مكان بالقرب من الرئيس, أو بالقرب من وسائل الإعلام التي تتبعه, حتي لا يرانا ولا يسمع أصواتنا أحد وهذه ليست أمريكا.. هذه ليست أرض الأحرار وموطن الشجاعة والشجعان.. هذه دولة أخري.. أنني أمريكي وطني أريد بلدي قويا لايخشي الخلاف السياسي ويقوده زعماء يتمتعون بالشجاعة والسماحة ويستمعون إلي كل الآراء, ولا يحبسون أنفسهم مع الذين يرددون أفكارهم فقط.. أما ما يحدث الآن لاخفاء المعارضة السياسية فإن ذلك سلوك غير أمريكي.
ويستشهد تشارلز ليفينوسكي بواقعة تكشف نوع الديمقراطية الحاكمة الآن في أمريكا, وذلك أثناء خطاب ألقاه الرئيس بوش في مطار مترو بوليتان بكولومبيا منذ فترة, ومن بين آلاف المواطنين الواقفين, رفع مواطن( بيرت بير ساي) لافتة تقول لانريد حربا أخري من أجل البترول. ولم يكن الرجل يمثل أي تهديد للرئيس, ولم يكن واقفا في منطقة مخصصة لكبار المسئولين, ولم يكن يعوق الطريق, ومع ذلك تم القبض عليه ووجهت إليه تهمة التعدي علي الممتلكات العامة, وعندما برأته المحكمة من هذه التهمة, وجهت إليه تهمة أخري هي انتهاك قانون فيدرالي بمنع دخول المناطق التي يزورها الرئيس, وعقوبتها السجن ستة أشهر وغرامة خمسة آلاف دولار.. وبعث أحد عشر عضوا من مجلس النواب خطابا إلي النائب العام جون اشكروفت يلتمسون وقف المحاكمة واسقاط العقوبة, وقالوا في خطابهم إن إغضاب رئيس الولايات المتحدة سياسيا ليس جريمة جنائية لكن ذلك الطلب رفض, وتمادت الحكومة الفيدرالية فاتهمت جماعة حماية البيئة المعروفة باسم السلام الأخضر بتهمة التآمر لأن بعض اعضائها صعدوا علي ظهر سفينة شحن للاحتجاج علي ما عليها من حمولة تتعارض مع سياسة حماية البيئة, فتم القبض عليهم برغم أنهم يفعلون ذلك بطريقة سلمية دائما في دول كثيرة وعلي سفن غير أمريكية, وواجهوا تهمة تصل عقوبتها إلي غرامة عشرة آلاف دولار والوضع تحت المراقبة لمدة تصل إلي أحد عشر عاما.
في هذا المناخ السياسي من القمع وكبت الحريات لمنع تفاقم المعارضة لحرب العراق جاءت هذه الزيارة لتكون ورقة مؤثرة في الحملة الانتخابية.
ومع ذلك فإن ردود الفعل لم تكن كما أراد الرئيس بوش, حتي إن مفكرا استراتيجيا وسياسيا كبيرا مثل زبجينو بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر قال إن التناقض بين القوة الأمريكية التي وصلت إلي ذروة تاريخية, وبين مكانتها السياسية في العالم التي وصلت إلي الحضيض تحتاج إلي البحث عن السبب. وكتب بيتر بيترسون مقالا بعنوان صورة أمريكا وصلت إلي نقطة الخطر قال فيها إن صناعة السياسة الأمريكية الحالية قائمة علي خلق الصدامات مما أدي الي فقدان ثقة أصدقاء أمريكا في سياستها من أوروبا الغربية وحتي الشرق الأقصي.. وصورة أمريكا يراها العالم الآن علي أنها دولة تعتمد سياستها علي الغرور والنفاق والأنانية وازدراء الآخرين, وإذا لم تعدل سياستها فسوف تتحول هذه المشكلة إلي كارثة.
بلير أيضا يواجه تراجعا في شعبيته, ويحاول قمع آراء المعارضين لحربه علي العراق إلي حد فصل عضو مجلس العموم جورج جالاوي من حزب العمال لمعارضته لهذه الحرب.. وعلق جالاوي علي ذلك بقوله: إن بلير يقول إنه يريد حرية الرأي في العراق, بينما هو لايريد حرية الرأي في بريطانيا.
في هذا الاطار.. هل تكفي هذه الزيارة التي كلفت الخزانة البريطانية أربعة ملايين جنيه استرليني, وجندت الحكومة لها أربعة عشر ألفا من رجال الأمن, والمليئة بالاحتفالات والخطب والمآدب الملكية بالملابس الرسمية لتغيير الرأي العام في أمريكا وبريطانيا؟او لتغيير الحقيقة؟