العدالة الأمريكية
من يصدق أن القضاء في أمريكا يتعرض لضغوط حكومية, وأن ميزان العدالة مهدد بالاختلال..؟ هذه هي الحقيقة التي تتحدث عنها الصحافة الأمريكية وعلي لسان القضاة أنفسهم, بل وعلي لسان أكبر رأس في النظام القضائي الأمريكي, وهذا وجه آخر من وجوه الادارة الأمريكية الحالية.
صحيفة هيرالد تريبيون- وهي من أكثر الصحف احتراما ومصداقية- في يوم12 أغسطس الحالي وتحت عنوان وضع القضاة في قائمة سوداء قالت إن الآباء المؤسسين لأمريكا سوف يصابون بالفزع لو أنهم علموا بما يحدث, فقد أسسوا الدولة علي سلطات ثلاث: السلطة القضائية, والسلطة التشريعية, والسلطة التنفيذية, وعلي مبدأ استقلال هذه السلطات, ولكن هذا الاستقلال الآن مهدد, والتوازن بين السلطات أصيب بالخلل, بعد أن أمر وزير العدل أشكروفت بالبدء في جمع معلومات عن القضاة الفيدراليين الذين يصدرون أحكاما بعقوبات مخففة أقل من العقوبات التي أبلغوا بها في قائمة الارشادات الفيدرالية, وقد علق القضاة علي ذلك بأن الحكومة تعتزم وضع قائمة سوداء تتضمن أسماء هؤلاء القضاة, ويمكن أن يتعرضوا للتهديد والمحاسبة فيما بعد.
وقد شكل الكونجرس لجنة في منتصف الثمانينات, أعدت قائمة بالتوجهات التي يجب أن يلتزم القضاة في أحكامهم. وكان الهدف من هذه التوجيهات توحيد الأحكام في القضايا والجرائم المتماثلة في مختلف الولايات للقضاء علي التفاوت في أحكام المحاكم بين ولاية وأخري, وهذه القائمة تحدد العقوبات التي يجب علي القاضي أن يحكم بها, وكانت هذه التعليمات- أو التوجيهات- تعطي القضاة مساحة من الحرية لتخفيف الأحكام إذا وجدوا مبررا لذلك, وكان القضاة يستعملون هذا الحق بناء علي طلب الحكومة أو أجهزة الأمن مكافأة للمتهمين الذين يتعامون معهما. ولكن الادارة الأمريكية الحالية, وأعضاء الكونجرس الموالين لها أعلنوا عن غضبهم علي القضاة الذين يحكمون بعقوبات مخففة, وسعوا للضغط علي القضاة لكي يحكموا بطريقة معينة, وبذلك يتعرض القضاة الفيدراليون للضغط السياسي, وتتورط إدارة الرئيس بوش في هجوم راديكالي علي النظام الدستوري الأمريكي, إلي حد أن رئيس الهيئة العليا للقضاء وليام رينكويست ابدي اعتراضه وحذر من استمرار الحكومة في جمع معلومات عن أعمال القضاة وأحكامهم, لأن ذلك سيؤدي إلي خطأ كبير يهدد القضاة كأفراد, ويهدد سلطة العدالة والقضاء, وقال رينكويست إن علي وزير العدل اشكروفت أن ينتبه إلي ذلك جيدا, ويتخلي عن الحرب الخطيرة التي يشنها علي السلطة القضائية.
وفي نفس الصحيفة وفي اليوم التالي13 أغسطس وتحت عنوان العقوبات المشددة تضعف أمريكا قالت إن رئيس المحكمة العليا أنتوني كيندي انتقد سياسة العقوبات المشددة والقاسية التي تفرضها الحكومة علي القضاة دون أن تسمح لهم بالمرونة في تطبيقها. وقال معبرا عن رأي خبراء القانون ورجال القضاء إن هذه السياسة الجديدة ستؤدي إلي تبديد الأموال في الانفاق علي أعداد كبيرة في السجون لفترات طويلة بشكل غير معقول, ووفقا لقواعد غير قواعد العدالة.. ووفقا لإحصاء العام الماضي وصل عدد المسجونين الأمريكيين إلي مليونيين و100ألف سجين, والسبب الأول في هذه الزيادة الهائلة هو إلزام القضاة بالحكم بعقوبة السجن, ويضاف إلي ذلك إلزام القضاة بقائمة الارشادات الفيدرالية التي تحدد العقوبات, وأدي ذلك إلي إصدار القضاة أحكاما أشد مما كان يمكن الحكم به لو رفعت الادارة يدها عنهم وتركتهم لضمائرهم.
وليس رئيس المحكمة العليا أنتوني كيندي الذي أثار الاعتراض علنا, ومعه رئيس الهيئة العليا للقضاء وليام رينكويست وحدهما, ولكن كثيرا من القضاة أعلنوا احتجاجهم علي هذا التدخل حتي ان القاضي جون مارتن أعلن أنه سوف يستقيل من منصبه في المحكمة الفيدرالية وقال: هذا أفضل من أن أظل جزءا من نظام عقابي قاس وصارم دون ضرورة, ومع ذلك فإن إدارة بوش, والجمهوريين في الكونجرس زادوا الأمر سوءا بإصدار قانون جديد يحد من حرية القضاة في تحديد العقوبة المناسبة, أو إصدار أحكام مخففة, وكل ذلك الآن موضع انتقاد من الليبراليين والمحافظين علي السواء.
هذا ما تقوله الصحيفة الأمريكية بالضبط.. من يصدق..؟