مع شيخ الزاهدين (2 - 3)

كنت أعلم أن عددا من الدول العربية والإسلامية عرضت على الشيخ عبد الجليل عيسى أن يتولى تدريس مادة الشريعة فى جامعاتها وإلقاء المحاضرات والأحاديث فيها لكنه كان يفضل العكوف على كتبه وحضور الدرس الأسبوعى فى الأزهر حيث يجلس تلاميذه ومريدوه فى حلقة ومنهم طلبة فى جامعة الأزهر كان يرى أن واجبه أن يقدم إليهم «زكاة العلم». وبعد لقائى الأول معه تعلقت به وأصبحت من مريديه أذهب إليه وأسأله وأسجل إجاباته وأنشر بعضها فى الأهرام وأحتفظ ببعضها الآخر مع كثير غيرها منتظرا الفرصة لنشرها جميعا بإذن الله.. فى يوم قال لى: إن العلماء قصروا فى إرشاد الناس إلى حقيقة الدين وتعاليمه وتركوا المنابر والإعلام لكل من جعل نفسه داعية، حتى أصبح المسلم متعودا على سماع كلام بعيد عن المبادئ الإسلامية الصحيحة وبعض هؤلاء الدعاة الأدعياء يستمدون مادتهم من كتب مليئة بالأخطاء وبالانحرافات أحيانا وهؤلاء تنطبق عليهم آية فى كتاب الله يوم القيامة حين يقول الذين ضللهم هؤلاء الدعاة: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنْ الأَسْفَلِينَ (29)
كان شيخنا يضرب المثل بما سمعه من بعض خطباء المساجد مثل الحديث الذى يقول إن الملائكة شقوا صدر النبى صلى الله عليه وسلم وأخرجوا من قلبه المضغة السوداء الموجودة فى قلب كل إنسان، وأحضروا إناءين من الذهب أولهما ملىء بالحكمة والثانى ملىء بالعلم وملأوا منها قلب النبى، وتساءل شيخنا: إن العلم والحكمة لاتوضع فى إناء، والصحابة ومنهم أبو بكر وعمر لم تغسل الملائكة قلوبهم ومع ذلك كانوا من أهل العلم والحكمة.. كذلك فى حديث الإسراء والمعراج أن جبريل وهو يصعد من سماء إلى سماء ومعه النبى كان يدق على الباب فيسمع: من معك؟ فيجيب: محمد، فيقال له: هل بعث؟ كيف يقال إن فى السماء أبواب يدق عليها الملائكة؟ وهل الملائكة لاتعرف الرسول؟ ولاتعرف أنه بعث؟ مع أن الإسراء بعد البعث بـ13 سنة والوحى ينزل على النبى فهل معقول أن ملائكة السماء لاتعلم؟
***
كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار.. قال شيخنا إن البدع المقصودة هى البدع فى الدين وليست البدع فى العادات والاختراعات فى الوسائل التى يستخدمها الناس. والبدع فى الدين هى التى يستخدمها الناس. والبدع فى الدين هى التى قصدها الرسول صلى الله عليه وسلم فى حديثه: «من أحدث فى ديننا ماليس منه فهو رد عليه» وقد بدأ إدخال البدع فى الدين على يد الزنادقة والمجوس وحين كان يتنزل الوحى كان الله يبعث بالآيات ما يكشف هؤلاء ويحذر منهم مثل قوله تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)،وبعد انتقال الرسول وانقطاع الوحى نشط المنافقون وأعداء الإسلام ودسوا الكثير من الأحاديث أسماها رماة الأحاديث «إسرائيليات» وبعد إتساع الدولة الإسلامية ودخول شعوب فى الإسلام لها عادات وأفكار ومعتقدات راسخة منها البدع والمعتقدات التى لاتتفق مع العقل، وهؤلاء أدخلوا عاداتهم وعقائدهم القديمة إلى الإسلام وادعوا أنها من السنة مثل الاحتفال بالأربعين للميت والحديث يقول: «لايحل الحداد بعد ثلاثة أيام». ومثل النواح خلف الجنازات وتقديم طلبات وشكاوى لأضرحة الأولياء الموتى مما يتعارض مع الحديث «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث...إلخ) ومثل النذور والاستعانة بالأولياء الموتى وهى عادة جاهلية كانت الفراعنة وكثير من الشعوب وعند العرب قبل الإسلام، ومثل خروج الناس فى القرى وبأيديهم الطبول والصفيح عند خسوف القمر ويصيحون (يابنات الحور سببوا القمر يدور) والعلماء يشاهدون ويسكتون وهم يرون مايحدث من البدع والانحرافات فى الموالد ويقال إنها مناسبات دينية للاحتفال بالأولياء، وأذكر وأنا طالب فى معهد طنطا الدينى أنى كنت أشاهد عند مقصورة السيد البدوى علماء دين يحضرون من القاهرة ويصدقون أن النبى صلى الله عليه وسلم يحضر مولد السيد البدوى.
ومن البدع والخرافات-كما قال شيخنا- أن بعض الأدعياء يكتبون أحجبة فيها آيات من القرآن تعلق فى البيت لمنع البراغيث والفئران.. والإمام مالك يقول:» من زعم أنه يأتى فى هذا الدين بما لم يأت به رسول الله فقد زعم أن محمدا (ص) خان الرسالة».. وكل من يزعم أن هناك أسرارا فى الدين بخلاف ما جاء من الله تعالى فى كتابه ومن رسوله فى الأحاديث الصحيحة فقد ارتكب ضلالا، ومن يرى أن الشرع يمكن أن يخالف منطق العقل السليم فقد ارتكب إثما كبيرا، وهناك من الغرائب والمعجزات التى تنسب إلى الأولياء ما لايقبله عقل مثل قول الألوسى فى كتابه «روح المعانى» الجزء السادس والعشرين فى صفحة (10) أن الشيخ عبد القادر الجيلانى كان يعلم كل شىء ظاهر أوخفى فى الوجود حتى عدد الشعرات فى رؤوس تلاميذه. وكتاب الجامع الكبير للأسيوطى ملىء بالأحاديث التى لايليق بالعقل والذوق نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والغريب أن هذا الكتاب طبع بدون إذن من مجمع البحوث الإسلامية، ومما يرويه السيوطى من الأحاديث أن النبى بعد غزوة خيبر كان ضمن الغنائم حمار أسود رآه النبى فسأله: ما اسمك؟ فقال الحمار: يزيد بن شهاب،فقال النبى: لا بل إن اسمك يعفور، ثم سأله: وما أصلك، قال الحمار: أنا من آخر الحمير التى كان يركبها الأنبياء، واستعمله النبى هذا الحمار وكان يوجهه إلى أصحابه فيذهب إلى دورهم ويضرب عليهم الأبواب ويستدعيهم، ولما مات الرسول صلى الله عليه وسلم ألقى الحمار بنفسه فى بئر ومات حزنا.. فهل بعد ذلك نصدق كل ما هو موجود فى الكتب القديمة وبعضها مشهور ومنهم علماء أفاضل؟!
***
نبه شيخنا إلى أنه تم طبع كتاب السيوطى الجامع الكبير ومع أن الذى كتب مقدمة الكتاب هو الدكتور عبد الرحمن بيصار شيخ الأزهر الأسبق وقال فى المقدمة إننا سنخرج الأحاديث ونمحصها حتى نبعد ما فيه شبهة الكذب، ومع ذلك فإن الكتاب كما هو مطبوع لاتزال فيه أحاديث لم يتم تخريجها مثل الحديث «كلوا العدس فإن الله قد مدحه على لسان أربعين نبيا» والحديث عن أبى هريرة:»سمنوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط» فهل يعقل أن يركب المسلمون الخرفان ويسيروا بها على الصراط» كذلك فى الجامع الكبير الذى صدر حديث :» إن الله وملائكته يصلون على أصحاب العمائم يوم الجمعة» وهذا الحديث من رواية أيوب بنى مدرك وهو كذاب، ومثل الحديث» إن الشمس والقمر إذا رأى أحدهما من عظمة الله شيئا حاد عن مجراه وانكشف».. وفى كتاب السيوطى مايكفى لهدمه أنه يورد الأحاديث دون سند كامل ومن أمثلة ذلك كثير فى الجامع الكبير وفى غيرهما.
***
تعب الشيخ عبد الجليل عيسى من كثرة النداءات التى وجهها إلى الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية وجامعة الأزهر ورئيس الجمهورية وكل مسئول فى البلد لحماية دين الله من المعتقدات والأقوال الداخلية التى تفسد على الناس دينهم.. وماذا ننتظر من إنسان يصدق مايروى عن الديلمى أن النبى قال: « إن لله تعالى ملائكة مابين شحمة أذن أحدهم وترقوته مسيرة سبعمائة عام كالطير السريع الطيران» أو من يقرأ فى أحد الكتب القديمة، أو يسمع من خطيب جاهل أن عبد القادر الجيلانى كان وليَّا له خوارق حتى أنه رد روح أحد تلاميذه بعدما قبضها ملك الموت.
خطورة الأحاديث غير الصحيحة أنها تفسد نقاء العقيدة من ناحية، وقد يستدل بها فى إصدار الأحكام والفتاوى الدينية من يصدقها و من يتصدى للدعوة والإفتاء من غير المتخصصين فى التعديل والمعرفة بصحيح الحديث وضعيفه ومكذوبه مثل قصة الغرانيق التى تقول إن الشيطان تكلم على لسان النبى بآيه مدح بها آلهة المشركين وقال ( تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن التى لترتجى) وقد اعتمد عليها وروج لها فى الغرب عدو الإسلام سلمان رشدى فى روايته (آيات شيطانية).
مضت سنوات على رحيل الشيخ الجليل ومازالت دعوته للأزهر مستمرة.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف