ماذا بعد الصدمة و الرعب

في أمريكا أصوات تقول الحقيقة الصدمة والرعب بالغزو الأمريكي للعراق وتعلن صراحة أن سياسات الإدارة الأمريكية تزهو وكأنها حققت انتصارات لم يسبق لها مثيل‏,‏ بينما تخفي الفشل‏.‏ ومفكر مثل بول كروجمان كتب في هيرالد تريبيون يوم‏17‏ مايو الحالي يقول إن حرب بوش علي الإرهاب لم تحقق شيئا‏,‏ بل إنها حققت عكس الهدف منها‏,‏ وتكفي شهادة المعهد القومي للدراسات الاستراتيجية في بريطانيا‏,‏ وهو مؤسسة مستقلة ومحايدة ومحترمة‏,‏ وليست منحازة ضد أمريكا او ضد الرئيس بوش‏.‏ وقد توصل في اخر دراساته إلي أن تنظيم القاعدة لم تنجح الحروب الأمريكية في القضاء عليه وحدث العكس‏,‏ فقد أصبح أسرع نموا وانتشارا عما كان قبل‏11‏ سبتمبر‏,‏ وأن الادارة الأمريكية في حربها العالمية علي الإرهاب تشبه ما يحدث في استوديوهات التليفزيون‏,‏ حيث تعم الفوضي والقبح‏,‏ بينما تظهر المشاهد علي شاشات التليفزيون جميلة ومقنعة‏,‏ فما يجري في الكواليس شئ‏,‏ وما يبدو أمام المشاهدين شئ آخر‏,‏ كذلك فإن الرئيس بوش يظهر أمام كاميرات التليفزيون في مشاهد انتصارات بطولية‏,‏ ويهتم مساعدوه بأن يبدو في الصورة متألقا وجذابا وواثقا من نفسه‏,‏ مع أن الحرب علي العراق لم تجعل أمريكا أكثر امانا‏,‏ بدليل الاستنفار والتعبئة لقوات الأمن داخل امريكا‏,‏ والانذارات والتحذيرات اليومية من المسئولين في الادارة والمخابرات ومكتب التحقيقات‏.‏


والآن‏,‏ وقد انتهي الجزء التليفزيوني فإن علي الادارة الأمريكية أن تقول للأمريكيين‏:‏ أين بن لادن‏,‏ وأين طالبان‏,‏ وأين تنظيم القاعدة‏,‏ وماذا فعلت لتنفيذ وعودها بإعادة بناء أفغانستان بفكر جديد‏,‏ وأين أسلحة الدمار الشامل في العراق‏,‏ وأين الدليل علي علاقة العراق بالإرهاب‏,‏ وماذا تحقق بعد أن أصبح الجنرالات يحكمون البلدين‏..‏؟

وقد وجه السيناتور بوب جراهام اتهاما صريحا إلي الادارة الأمريكية بقوله إن تنظيم القاعدة كان منذ عام مقيدا وتحت الحصار والسيطرة‏.‏ ولكن تحول اهتمام القيادات العسكرية والاستخباراتية إلي العراق أدي إلي فك الحصار عن تنظيم القاعدة‏,‏ فاستعاد قوته وانتشر‏.‏ والسيناتور بوب جراهام كان رئيسا للجنة الاستخبارات في مجلس‏(‏ الشيوخ‏)‏ يعلم كثيرا من الخفايا والأسرار‏,‏ وقد اتهم الإدارة الأمريكية بالتغطية علي الحقائق‏,‏ وتجاهل تقرير الكونجرس الذي كشف أن التوصيات والخطط التي وضعت بعد‏11‏ سبتمبر لم تنفذ‏.‏


ويقول كروجمان ان مجرد إزاحة صدام حسين لم ولن يجعل أمريكا أكثر أمانا‏,‏ فلم يكن صدام تهديدا لأمريكا‏,‏ ولم تكن له روابط بالارهاب‏,‏ ولم تكن لديه أسلحة دمار شامل بدليل أن الفريق الأمريكي الذي ذهب بعد الحرب إلي العراق فتش في كل مكان فوق الأرض وتحت الأرض ولم يجد شيئا وعاد إلي أمريكا‏,‏ وبعد تحول اهتمام شبكات التليفزيون عن تغطية الحروب والانتصارات‏,‏ بدأ يقل تركيز الادارة الأمريكية علي الحجج والمبررات التي كانت تؤكدها عن خطورة العراق علي الأمن القومي لأمريكا‏,‏ وما يراه الأمريكيون الآن هو فشل القوات الأمريكية في حفظ الأمن‏,‏ ومنع عمليات النهب في العراق‏,‏ وحتي في تأمين المعدات الملوثة بالنفايات النووية‏,‏ وقد كشفت صحيفة نيو ريبلك عن معلومات بأن جماعات عراقية مسلحة تستعد للمقاومة‏,‏ وربما تشعل حربا أهلية‏!‏ ومعني ذلك احتمال أن تواجه أمريكا الورطة التي كان يحذر منها الرافضون للحرب‏,‏ وإذا بقيت القوات الأمريكية فسوف تزيد احتمالات انتشار الارهاب‏,‏ واستمرار وجود أمريكا في المنطقة كقوة احتلال هو ما تريده التنظيمات الارهابية‏,‏ لكي تثبت صحة دعواها وعدائها لأمريكا وتكتسب التعاطف والانصار‏,‏ وهذا هو ما سبق أن أعلنه الرئيس بوش الأب عندما اتخذ قراره بعدم غزو العراق واكتفي بتحرير الكويت في حرب‏1991.‏

وحتي أصدقاء أمريكا في العراق بدأوا يعلنون قلقهم‏,‏ كما فعل الزعيم الكردي مسعود البرزاني الذي أعلن أنه يشعر بأن فشل الإدارة الأمريكية سوف يجعل هذا الانتصار المذهل يتحول إلي ورطة‏..‏

وينتهي كروجمان إلي القول إن السعي وراء الأضواء والشعبية التليفزيونية هو الذي جعل الادارة الأمريكية تندفع دون أن تحسب حسابا للعواقب‏,‏ وبعد أن كان هدفها القضاء علي القاعدة شغلت العالم بالحرب من أجل القضاء علي نظام حكم كريه وفاسد وديكتاتوري‏,‏ ولكنه‏-‏ مع ذلك‏-‏ لم يكن يمثل تهديدا لأمريكا وبالتالي فإن ما كان يقال من أن القضاء علي هذا النظام كفيل بتحقيق الأمن لأمريكا لم يكن صحيحا‏.‏


وهكذا يبدو أنه ذهبت السكرة وجاءة الفكرة كما يقول المثل‏,‏ وربما تفيق هذه الادارة وتدرك قيمة صوت الحكمة الذي كان يحذر من أن هذه الحرب لن تقضي علي خطورة بن لادن ولكن ستؤدي إلي ظهور مائة بن لادن‏.‏ وأن خروج القوات وإعادة حكم العراق إلي أهله هما الحل الوحيد للخروج من الورطة‏.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف