ما العمل مع أمريكا

تزايدت في بريطانيا المعارضة لحكومة بلير بسبب خضوعها لأمريكا وابتعادها عن الموقف الأوروبي الذي كان أقرب إلي العدالة والشرعية‏.‏ وتزايدت في الصحافة البريطانية المقالات التي تعبر عن المخاوف من الأيديولوجية الجديدة التي تطبقها الإدارة الأمريكية القائمة علي السيطرة والقوة‏,‏ وإخضاع العالم لإرادة أمريكا‏,‏ والتصنيف للدول الذي أعلنه الرئيس بوش‏:‏ من ليس معنا فهو مع الإرهاب‏.‏

وفي صحيفة الاندبندنت البريطانية يوم‏6‏ مايو الحالي مقال بعنوان ما العمل مع أمريكا عبر فيه الكاتب البريطاني سيمون تيسرال عن مشاعر الغضب والقلق‏,‏ لأن توني بلير يري أنه ليس هناك داع للخوف من القوة الأمريكية والنظام العالمي الجديد القائم علي القطب الواحد‏.‏ وانه يجب تقبل هذا الواقع‏,‏ والتعامل علي أساس أن الشراكة الاستراتيجية بين أمريكا وأوروبا هي الطريق الصحيح‏,‏ وأن أي توجه آخر يحمل خطورة للجميع‏,‏ لانه سيؤدي إلي تشجيع التنافس بين القوي العالمية‏,‏ ثم يؤدي إلي اندلاع حرب باردة جديدة‏.‏


ولكن أيديولوجية بلير قائمة علي تجاهل الواقع والتاريخ معا‏,‏ فالتاريخ يؤكد أن الدولة التي تستقر لها السيادة تستخدم قوتها لمنع القوي الأخري من النمو‏.‏ وإذا وصلت أي قوة أخري إلي درجة تسمح لها بالمنافسة فستعمل علي التغلب عليها‏,‏ وهزيمتها بالحيلة‏,‏ وبالضغوط‏,‏ وبالقوة السياسية والاقتصادية‏,‏ وفي وجود الادارة الأمريكية الحالية فإن المفهوم الوحيد للشراكة مع أمريكا ليس له سوي معني واحد هو التسليم بالسيادة والقيادة لأمريكا‏,‏ والسير وراءها دون تردد أو اعتراض إلي حيث تقرر‏.‏

وليس هناك سوي ثلاثة بدائل أمام الدول للتعامل مع أمريكا‏,‏ الأول هو السير مع التيار الأمريكي والاستسلام لحقائق القوة العسكرية والاقتصادية الطاغية التي وصلت إليها الآن والتي لم يسبق لها مثيل في التاريخ‏,‏ والبديل الثاني المقاومة الشاملة لأمريكا سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا‏,‏ وهذا التوجه لن يفيد دول أوروبا أو أي دولة أخري في العالم‏,‏ ولن يحقق لمن يتبعه سوي الهزيمة التي قد تكون مدمرة‏,‏ وفي نفس الوقت فإن السياسة الأمريكية الحالية ليست دائمة‏,‏ ولا تعبر عن أمريكا ذاتها‏,‏ ولكنها تعبر عن التيار الحاكم في أمريكا الآن‏,‏ ويعبر سيمون تيسرال عن ذلك بقوله إن جورج بوش ليس أمريكا‏,‏ كما أن صدام حسين لم يكن العراق‏,‏ أما البديل الثالث للتعامل مع أمريكا فهو الشراكة معها والسعي في نفس الوقت إلي تحقيق توازن القوي‏,‏ والتوجه إلي تعديل النظام العالمي ليصبح قائما علي أقطاب متعددة تحقق هذا التوازن‏,‏ وتقدر علي الاختلاف‏,‏ بل وتقدر علي تحدي أمريكا أو احتوائها‏.‏


ولن يتحقق هذا الخيار الاستراتيجي للسعي إلي نظام التعددية القطبية إلا بقيام مجموعات اقليمية متماسكة وقوية‏,‏ وهذه المجموعات لن تكون لها فاعلية وتأثير إلا إذا وصلت إلي التكامل الحقيقي‏,‏ والاندماج والوصول إلي السيادة المشتركة بدلا من السيادة الفردية لكل دولة علي حدة‏,‏ وإلي الدفاع المشترك بدلا من سياسات وامكانات الدفاع الجزئية المبعثرة بين الدول‏,‏ وسياسة مالية واقتصادية وخارجية موحدة‏,‏ وأن يكون قادة هذه الدول قادرين علي تجاوز الحدود السياسية إلي الحدود التي تضم هذه المجموعات‏,‏ وهذا هو الطريق الأمثل الآن لأوروبا‏,‏ وللمجموعات الاقليمية الأساسية الأخري‏,‏ وإذا ما تحقق ذلك فسوف يكون ممكنا اصلاح مجلس الأمن لتمثل فيه شعوب ومناطق العالم ولايكون القرار فيه للقوي العظمي‏,‏ كما كانت في عام‏1945,‏ ولا تستهين به أمريكا وتنفرد وحدها بالعمل وتتحدي الشرعية الدولية‏.‏

كيف يفكر العرب لكي يصلوا إلي رؤية واضحة واستراتيجية للتعامل مع النظام العالمي الجديد الذي يجثم بقوته الطاغية علي أرضهم وليس بعيدا عنهم؟ وهل يمكن أن يصل بهم النضج إلي حد التفكير‏,‏ والوعي والحرص علي المستقبل‏,‏ والنظر إلي ما سيكون عليه الحال في المستقبل القريب والبعيد‏,‏ ليقرروا أي بديل من هذه البدائل يختارون للسير عليه‏..‏ واعتقد أن البديل الذي يضمن السلامة هو العمل‏-‏ وليس القول‏-‏ علي إيجاد كيان عربي‏,‏ يمثل مجموعة اقليمية اساسية يمكن أن يكون لها صوت واعتبار‏,‏ وإذا وصلت يوما إلي درجة من الاندماج والسيادة المشتركة والدفاع المشترك والسياسة الاقتصادية والخارجية المشتركة‏,‏ وتكون للقادة العرب القدرة علي تجاوز الحدود القطرية الضيقة إلي الحدود القومية‏.‏


أوروبا تفعل هذا‏..‏ ومجموعات آسيوية تفعل هذا‏..‏ فلماذا لايستطيع العرب أن يفعلوا هذا بدلا من البكاء الدائم علي الفرص الضائعة؟

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف