نقد ذاتى أمريكى
الديمقراطية الأمريكية مازالت تسمح بحرية الرأي, وممارسة النقد.. ومن ذلك ما كتبه رونالد سبيرز الذي شغل مناصب دبلوماسية عديدة آخرها منصب وكيل وزارة الخارجية الأمريكية ثم مساعد الأمين العام للأمم المتحدة.
وفي مقال في صحيفة هيرالد تريبيون يوم14 يناير الحالي بعنوان حاولوا التفكير في قضية الإرهاب بوضوح أكثر قال فيه: إن محاربة الإرهاب لايمكن أن تحقق هدفها دون تعاون دولي, وهذا التعاون الدولي له جبهات متعددة: فكرية.. وثقافية.. وسياسية.. واقتصادية, وليس بالحرب وحدها. كذلك فإن أمريكا لن تستطيع تحقيق النصر في أي حرب, وضمان استمرار هذا النصر, إذا اقتصر دورها علي أن تكون قوة عسكرية عمياء فحسب, لذلك لابد لها أولا من التفرقة ـ بوضوح ودقة ـ بين الذين يرتكبون الجرائم الإرهابية وبين دياناتهم, وذلك لتفادي تحول الصراع إلي صراع ديني أو ثقافي.. ولابد ثانيا من التفرقة بين الإرهاب ومقاومة الاحتلال, وهي مقاومة مشروعة تاريخيا بالقانون الدولي وبالشرعية الدولية.
ويقول سبيرز إن الرئيس بوش كان في البداية واضحا ومحددا في توجهاته وسياساته, لكنه سرعان ما ضل الطريق وخلط بين مرتكبي الحادث الإرهابي في11 سبتمبر, وبين الصراعات المحلية المعبرة عن مطالب سياسية كما في أيرلندا الشمالية, وكشمير, وسريلانكا, وكذلك في فلسطين.. بينما ما يحدث فيها من عمليات العنف الفلسطيني يمكن أن تنتهي سلميا بالتفاوض والحل السياسي.. هذا الخلط جعل السياسة الأمريكية تفقد وضوح الرؤية ووضوح الهدف, كما كانت في البداية.. فلم تعد تري أن إرهاب تنظيم القاعدة مختلف جذريا عن أشكال العنف الأخري في العالم.. فتنظيم القاعدة منتشر في أنحاء متفرقة.. وليست له حدود جغرافية.. وهو تنظيم سري أفراده مجهولون.. وليست له قوات تقليدية منظمة أو مقار يمكن تدميرها.. ومن الصعب تحديد أهداف هذا التنظيم بدقة.. وكل ذلك يؤدي إلي أن مقاومة هذا الإرهاب يجب أن تكون بقوة وبحذر في نفس الوقت, حتي تتجنب أمريكا نتائج الوقوع في الخلط, وعلي أمريكا ـ والتحالف الدولي ضد الإرهاب ـ العمل علي استمرار مقاومة الإرهاب بسياسة النفس الطويل ولفترة لايمكن معرفة مداها.
لكن السياسة الأمريكية لم تسلك هذا الطريق, وحولت الحرب إلي وجهة أخري لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية, وبإسكات المعارضة في الداخل والخارج بحجة أن أمريكا في حرب وبشعارات عن الديمقراطية والسلام الدولي تجسد ما صوره أورويل في روايته الشهيرة التي صور فيها ما يحدث عندما تصل دولة إلي مرحلة الطغيان.. والاتفاق الدولي علي أن الذين نفذوا تفجيرات سبتمبر مجرمون, ولايمكن كشف مثل هذه الجرائم ومرتكبيها كما لايمكن منع تكرارها سوي بأعمال الاستخبارات, وبالأساليب المعروفة لمطاردة المجرمين, ولكن الإدارة الأمريكية قامت بخلط الأوراق في هذه القضية, وأدي ذلك إلي استغلال الإسرائيليين للفرصة والادعاء بأن مقاومة الفلسطينيين إرهاب, كما اعتبر الهنود حربهم في كشمير كذلك, وفعل مثلها الروس في الشيشان.. والصين مع المسلمين, وأصبحت كل دولة تصنف خصومها والمطالبين بالاستقلال علي أنهم إرهابيون وتعطي نفسها الحق في سحق هذه المقاومة أسوة بما تفعله أمريكا.. وبذلك أصبح لقمع حركات التحرر والاستقلال مشروعية مستمدة من السياسة الأمريكية دون مراعاة لمخالفة ذلك للقانون الدولي وحقوق الإنسان.. كذلك أعطت أمريكا لكل الدول المبرر لتغيير قوانينها هي الأخري لإباحة ما أباحته هي من إجراءات التنصت والتجسس والاعتقال والمحاكمة وحرمان المتهم من حق الدفاع ومن الحق في معرفة الاتهام أو تحديد مدة للاعتقال.. أو السماح بالتظلم.. أو تقديم أدلة اتهام..الخ.
ويصل سبيرز إلي أن مبررات الحرب الأمريكية ليست مقنعة, لكن الدعايات السياسية تشوش علي العقول الآن, وبعد فترة سوف يكتشف الأمريكيون أن تكرار عبارة مثل نحن نحاربهم لأنهم يكرهون الديمقراطية! ولأنهم يكرهون أمريكا.. لن تكفي للاقتناع.. لأن هذه الكراهية أسبابها سياسية واقتصادية, ويمكن لأمريكا أن تكسب صداقة الشعوب بإزالة أسباب شكواها, وبالتعامل معها بالعدل والإنصاف.. ومساعدتها علي التنمية أما الحرب فليست هي الحل!!