مع شيخ الزاهدين ( 1 - 3)

عندما ذهبت للقائه لأول مرة كنت أتوقع أن أجده يسكن فى فيلا كما يسكن أمثاله، أو فى بيت يملكه،وهو صاحب اسم يتردد فى الأوساط الدينية مصحوبا بالإكبار والاحترام الشديد، والكل يقولون إنه استاذهم وهم تلاميذه ويعترفون بأنه المرجعية التى يلجأون اليها عندما تتشكل عليهم بعض قضايا الفقه والشريعة. وكانت المفاجأة. وربما الصدمة. أننى وجدت رجلا يسكن .مع ابنه. فى شقه شديدة التواضع فى شارع من الشوارع الخلفية فى حدائق القبة. لم أكن أتصور أن الشيخ عبد الجليل عيسى الذى كان عميد كلية أصول الدين وعميد كلية اللغة العربية بالأزهر وجمع بين المنصبين فى وقت واحد وجمع معهما عضوية مجمع البحوث الاسلامية وعضوية هيئة كبار العلماء لأنه أهل لذلك، وله مؤلفات مرجعية، وصوته يدوى دائما فى المؤتمرات الدينية فى مصر وخارجها..لم أكن أتصور أن رجل وقدشارف -وقتها- على التسعين من عمره يعيش على المعاش الحكومى الضئيل لأن المعاشات وقت انتهاء خدمته كانت صغيرة ولكنها كانت كافية وقتها ولم تراع الحكومة ارتفاع تكاليف المعيشة بعد ذلك. ولم يحدثنى الرجل عن شىء من ذلك أبدا، ولكن الحال كان يغنى عن السؤال. وجدته جالسا على «كنبة» فى الصالة وحوله أحفادة الصغار وزوجة أبنه هى التى تخدمه، وكان يبدو قانعا وراضيا،وظل طول الوقت يتحدث معى بهدوء تشعرمعه أن هذا رجل منحه الله «النفس المطمئنة» التى ستعود إلى ربها راضية مرضية.
***
حدثنى عن كتب تفسير القرآن المعروفة والتى يعتمد عليها المفسرون فقال إن فىبعضها الكثير من الإسرائيليات، وإن مجمع البحوث الإسلامية عهد اليه مراجعة كتب التفسير والحديث لتنقيتها من الإسرائيليات والخرافات التى تسىء إلى الإسلام وتسىء فهم المسلمين لصحيح الإسلام، وقال: شرعت فى ذلك منشرح الصدر لأنى وقفت لانقذ الناس من بلبلة العقول والتى أدت إلى تفرق المسلمين، ووجدت أمامى مئات الأحاديث المكذوبة والمنسوبة إلى رسول صلى الله عليه وسلم فى عدة كتب يرجع إليها كثير من الخطباء ورجال الفتوى ويؤمنون بصحتها بدون تمحيص، ففى كتاب الجامع الكبير للسيوطى وجدت100 ألف حديث طبع منها10آلاف والباقى تشكك فيه السيوطى نفسه. والبخارى جمع أكثرمن200 ألف حديث فاستبعد الإحاديث غير الصحيحة وأبقى 2400 حديث فقط،كذلك جمع الإمام مسلم 300 ألف حديث وجد معظمها أحاديث منسوبة كذباً للرسول وابقى 5000 حديث فقط، كذلك فعل الإمام مالك فقد جمع 100 ألف حديث وانقطع لدراستها حتى اطمئن إلى صحة 800 حديث فقط وجمعها فى «موطاً الإمام مالك» والسيوطى فى أول كتابه «الجامع الصغير» قال: «راجعت ماجمعت ومحصته وأبعدت ما جاء به وضاع أو كذاب» ومع ذلك فإن علماء «الجرح والتعديل» وجدوا فىهذا الكتاب أحاديث كثيرة مكذوبة، ووجدوا أن السيوطى نفسه اعترف فى كتابه «اللآلىء المصنوعة» بأن فى الجامع الصغير أحاديث غير صححية..
***
من أمثلة الأحاديث التى يمكن الحكم بأنها غير صححية ما جاء فى الجامع الصغير أن رسول قال: «عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وبعثت على رأس الألف السادس» وقد علق على هذا الحديث الألوسى فقال إنه حديث هدمه الزمان على رأس السيوطى بعد أن مضت الألف السابعة ومازالت الدنيا كما هى. وجميع علماء الحديث يقررون أن فريقامن أعداء الإسلام كانوا. يخترعون الأحاديث وعلى رأسهم كعب الأحبار، وابن منبه، وغيرهم من المنافقين أظهروا الإسلام واتصلوا بالصحابة فاستباحوا رواية أحاديث نسبوها كذبا اليهم ونسبوا الكثير من الأحايث إلى أبى هريرة وابن عباس وبعض التابعين،وزاد نشاطهم عندما انشغل المسلمون بالحروب والمنازعات التى وقعت بينهم بعد مقتل الخليفة عثمان ووقعت «الفتنة الكبرى».
وكان أول من تنبه لهذا الخطر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فأمر بتدوين الأحايث واستبعاد الدخيل عليها، وقام المؤلفون من التابعين وتابعى التابعين بتدوين الأحاديث كما سمعوها من غير فحص دقيق، ولم يراع الحرص-بقدر الطاقة- سوى البخارى ومسلم ومالك، ومع ذلك فقد تضمنت الأحاديث التى دونوها أحاديث غير صحيحة بمعاير المنهج العلمى الدقيق، وقد نبه ابن حجر فى كتابه «فتح البارى» إلى ما فى البخارى من أحاديث غير صحيحة.
***
وقال شيخنا: ثم جاء «قرن الفتنة» وسمى كذلك لأن الزنادقة ملأوا كتب الأحاديث والسيرة والتفسير بالأحاديث الموضوعة، وظهر بعض المسلمون يدعون الولاية اندس بينهم بعض الزنادقة وصاروا يزيعون الخرافات باسم الدين ومنها أن الأولياء أفضل من الأنبياء وغير ذلك كثير مثل أن فرعون موسى مات مؤمنا كما قال ابن عربى فى كتابه الشهير «الفتوحات المكية» ومثل أن قوم نوح ماتوا مؤمنين ومثل أن إبليس دخل العراق فقضى حاجته وخرج ودخل سوريا فضربه أهلها ودخل مصر فعاش فيهاوباض وأفرخ(!). وهكذا عمل المنافقون والزنادقة والكارهون للإسلام على تشويه الدين الاسلامى بأفكار ومعتقدات تتعارض مع عقيدته. وقد وقع بعض أصحاب النوايا فى الفخ. ولم تتم مراجعة السنه فى كل حديث للتأكد من صحة صدور الحديث عن سلسلة الرواة وأن هؤلاء الرواة عاشوا فعلا فى زمن من ينقلون عنهم وأنهم مشهود لهم بالصدق والعقل وعدم التسرع، وإلا فكيف يروى بعض أئمة المساجد اليوم الحديث الذى يقول: لكل مسلم فى الجنة اثنتان وسبعون زوجة، اثنتان من الحور العين، وسبعون من نساء الكفار الذين ذهبوا إلى جهنم «وهو حديث فى كتاب السيوطى» الجامع الصغير» منسوب إلى الرسول.. وبناء على توصية الشيخ عبدالجليل عيسى أوقف طبع كتاب الجامع الصغير، وصدر قرار من مجمع البحوث الإسلامية بإيقاف طبع «الجامع الكبير» إلى أن ينتهى العمل فى تنقية الكتب من الأحاديث غير الصحيحة، ولكن القرار لم ينفذ.. هكذا قال لى الشيخ وهو غاضب.
***
الشيخ عبد الجليل عيسى ولد سنة 1882 فى قرية الرملة مركز كفر الشيخ وتخرج من الأزهر وحصل على العالمية فى قسم التخصص سنة 1914، وعين استاذا ثم عميدا لقلينى أصول الدين واللغة العربية، وفى سنة 1951 فُصِل من الخدمة لأن الحزب الحاكم وقتها كان يريد تعيين أنصاره فى كل المناصب، ورفع دعوى أمام مجلس الدولة فحكم بعودته إلى المنصب بعد أن ظل ثلاثين شهرا مفصولا ومحروما من مرتبه.. وله مؤلفات عديدة منها: صفوة حديث البخارى (اختار منه 700 حديث أثبت صحتها) والمصحف الميسر، واجتهاد الرسول، وما يجوز وما لا يجوز فيه الخلاف ورحل فى يوم من أيام رمضان فى أول يوليو 1981، وقال عنه شيخ الأزهر الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوى: إنه أستاذى أعترف له بالفضل والعلم، ولقد كان يتميز بالدقة فى البحث، والحذر فى إصدار الأحكام، وكان يراجع ما يكتبه عشرات المرات قبل أن ينشر حتى يطمئن إلى صحة ما وصل اليه فى التفسير والتأويل واستنباط الأحكام على عكس ما نراهم اليوم وكأنهم ماكينات لإنتاج الأحاديث والأحكام والفتاوى.. كان الشيخ عبد الجليل عيسى عَلمًا من أعلام الحديث والتفسير ومازال الحريصون على صحة فهمهم للإسلام يعتمدون على مؤلفاته

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف