تحديث العقول أولا
عندما أعطي الرئيس حسني مبارك اشارة البدء لتنفيذ المشروع القومي الكبير,. مشروع تحديث مصر, كان يقصد تحديث المجتمع المصري بكل مكوناته المادية والمعنوية التي تؤهله لدخول القرن الحادي والعشرين, وتجعله قادرا علي التعامل والتنافس في الساحة العالمية من موقع يناسب مكانة مصر.
لكن المسئولين عن تنفيذ هذا المشروع الحضاري الشامل فهموا أن مهمتهم تنحصر في تحديث الصناعة, والبنية الأساسية, والمنشآت الحيوية, ولم يلتفتوا الي ماطالبهم به الرئيس من البدء في تنفيذبرنامج علمي ومستمر لتحديث الحياة الاجتماعية. مما يعني أن يكون العمل علي تحديث العقول له الأولوية, وكلما حققنا تقدما في ذلك كان من السهل أن نحقق تقدما اكبر في سائر المجالات الاخري.
وكل نهضة كبري في التاريخ كانت بدايتها تحديث العقول.. ولم يشهد التاريخ نهضة حضارية ومادية لم تسبقها, او تصاحبها, نهضة فكرية وثقافية..
ينطبق ذلك علي الحضارة الإسلامية الكبري كما ينطبق علي النهضة الأوروبية, وعلي نهضة بعض الدول النامية في العصر الحديث, والصين أكبر مثال علي ذلك في العصر الحديث..
وتحديث ثقافة المجتمع ليس عملية سهلة, ولكنها عملية معقدة تستلزم استراتيجية واضحة تشارك في اعدادها وتنفيذها كل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية, مع اعتبارها رسالة قومية يتم تنفيذها بدون توقف وبحماس.. وتتم متابعتها بمنتهي الدقة والحزم..
علي أساس أن الثقافة هي التي منحت مصر التجدد والريادة علي مدي التاريخ, وأن رأسمال مصر الثقافي هو الذي حدد دائما مكانتها وتأثيرها.
والثقافة التي أقصدها ليست فقط الفنون التشكيلية والموسيقية والباليه والمسرح ولا المهرجانات والاحتفالات مما تهتم به وزارة الثقافة, ولكن اقصد القيم الاجتماعية والاخلاقية والسياسية, واسلوب التفكير العلمي الذي يتخلص من الخرافة وموروثات عصور التخلف, ويضاف الي ذلك العادات, والسلوك الحضاري, والذوق العام, وهذه كلها حزمة واحدة اذا تغيرت في الاتجاه الصحيح فسوف يتغير كل شيء في المجتمع في نفس الاتجاه, وهي كلها قابلة للتغير والتجدد ولكن ليس بسهولة, وليس بمجرد صدور قرار او تنفيذ مشروع او اكثر, ولكن ذلك يقتضي العمل لسنوات مع الاطفال والشباب بصفة خاصة لأن هذه الشريحة هي الاكثر قابلية للتطور وتغيير انماط التفكير والسلوك.. وتستلزم هذه المهمة حشد علماء الاجتماع ومراكز البحوث وخبراء التربية والاعلام
ومهما تكن هذه العملية صعبة فانها تستحق أن تبذل فيها اكبر الجهود, لان العقول هي المحركة للعمل, وهي الدافعة للتقدم أو التراجع.
وهي التي تحدد مكانة الفرد والمجتمع.. واذا لم يبذل الجهد لتغيير الافكار القديمة وغرس بدائل تناسب عصر ثورة المعلومات والتكنولوجيا والكمبيوتر والاجهزة الرقمية والهندسة الوراثية, فلن يكون لنا مكان في عالم لايعترف بحق الوجود الا للاقوياء ولامكان فيه للمتخلفين عن السباق العالمي..
وقوة الدولة في هذا العصر تتمثل في عناصر كثيرة اولها العنصرالبشري, ولذلك فان كل جهذ لبناء البشر سيؤدي الي بناء المجتمع كله.. ولم يعد مقبولا ان نكرر ماقلناه منذ نصف قرن من أن بناء البشر صعب!
ولابد ان يكون المصريون قادرين علي المبادرة والتحدي, والتفاعل مع ما في هذا العصر من قيم ومباديء وافكار واساليب للحياة ليكون لهم مكان فيه.
ولذلك نحتاج الي دق الاجراس لكي ينتبه الجميع إلي ان تحديث العقول واعادة البناء الثقافي للمجتمع هما الضمان للتقدم, لان تطوير المباني وادخال التكنولوجيا الحديثة فقط لايكفي, ولكن بالعقول المتفتحة علي العصر, وبطرق التفكير العلمي, وبسيادة القيم الحضارية, وبمؤسسات التعليم والبحث العلمي الجادة وبمراكز صناعة الافكاروالقرارباسلوب علمي وديمقراطي.. بكل ذلك تتحقق احلامنا في تحديث مصر. وهذا يقتضي وقفة مع المؤسسات المسئولة عن بناء العقل المصري في التعليم والاعلام والثقافة والبحث العلمي والدعوة الدينية لكي تراجع نفسها وتبدأ من جديد.