مهمة كيسنجر المستحيلة

منذ أسبوعين أصدر الرئيس الأمريكي جورج بوش قرارا بتعيين هنري كيسنجر وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأسبق‏,‏ رئيسا للجنة تحقيق علي أعلي مستوي سياسي لبحث أسباب الفشل في منع هجمات سبتمبر‏.‏


وتتكون لجنة التحقيق من عشرة أعضاء من الكونجرس نصفهم من الجمهوريين‏,‏ والنصف الآخر من الديمقراطيين‏.‏ وقد اختار زعماء الكونجرس الديمقراطيون السيناتور السابق جورج ميتشل ليكون نائبا لرئيس هذه اللجنة‏,‏ وقيل إنه بذلك توافر لهذه اللجنة ـ صورة مقنعة للرأي العام الأمريكي‏,‏ باختيار كيسنجر علي رأسها‏,‏ وهو صاحب خبرة واسعة في السياسة الداخلية الأمريكية والسياسة الدولية‏,‏ بالإضافة إلي ما هو معروف عنه من ذكاء حاد‏,‏ واطلاع علي حقائق ما يجري وراء كواليس الإدارة الأمريكية ومؤسساتها‏,‏ وإن كانت صحيفة نيويورك تايمز قد عبرت عن الشكوك السائدة حول التزامه بالحياد والموضوعية لأسباب عديدة ذكرتها‏,‏ منها أنه علي صلة بالسلطة من ناحية‏,‏ وبالمصالح المالية والتجارية الكبري من ناحية أخري‏,‏ وانتهت نيويورك تايمز إلي القول إن اختياره لم يكن سوي مناورة شديدة الذكاء من البيت الأبيض لاحتواء هذا التحقيق الذي يلح الكونجرس والرأي العام الأمريكي علي إجرائه‏,‏ وظل الرئيس بوش يعارض ذلك لفترة طويلة‏,‏ وتقول نيويورك تايمز إنه من المستبعد أن يقدم كيسنجر تقريرا عن أداء الحكومة والمؤسسات الأمنية وأداء الرئيس بوش نفسه‏,‏ قبل وأثناء الحادث‏,‏ أو أن ي

ؤدي واجبه بالدقة والكمال في البحث‏,‏ والإعلان عما يتوصل إليه‏,‏ وإلا فإن ذلك يعني أنه سيختار موقف التحدي للنظام الحاكم حاليا‏,‏ والمجازفة بقطع علاقات البزنس التي تربطه بأصحاب المصالح‏,‏ ومنهم عدد غير قليل في مواقع السلطة الآن‏,‏ وعدد كبير آخر تربطه بهم صداقات قديمة يحرص علي استمرارها لأسباب تتعلق به شخصيا‏,‏ ولن يكون مستعدا للتضحية بكل ذلك‏.‏


وقالت نيويورك تايمز في افتتاحيتها في أول ديسمبر الحالي إن المفروض نظريا أن يقدم كيسنجر حكما قاطعا علي ما حدث‏,‏ وكيف تركت المخابرات المركزية‏,‏ ومكتب التحقيقات الفيدرالي والوكالات الحكومية المسئولة عن الدفاع والأمن‏,‏ بما فيها البيت الأبيض ـ كيف تركت الولايات المتحدة عرضة لمثل هذا الهجوم الإرهابي‏,‏ ويسد بذلك الثغرات القائمة في فهم ما حدث‏,‏ حيث تعتبر هذه التحقيقات هي الفرصة الأخيرة للمحاسبة‏,‏ وإن جاءت متأخرة‏.‏ ولكنها الأمل في أن تستكمل التحقيقات الناقصة والمحدودة التي أجراها الكونجرس وأعلنت نتائجها أخيرا وهي نتائج غير مقنعة والوكالات الحكومية منفردة‏,‏ ولم تعلن نتائجها ويبدو انها لن تعلن ابدا ومن الضروري أن تقدم لجنة كيسنجر للرأي العام ما يؤكد عدم تكرار هذه الأخطاء‏.‏

هل كانت لجنة كيسنجر تستطيع التحقيق فعلا مع كبار المسئولين في الإدارة الأمريكية‏,‏ وقادة الجهات المختلفة‏,‏ وهي جهات لها وضع خاص في سلم الإدارة الأمريكية‏,‏ أو كان كيسنجر الثعلب العجوز يستطيع استعمال ما اشتهر به من قدرة وبراعة فائقة في المناورة والتملق‏,‏ وقد كان أكبر من نجح في تملق الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون عندما كان يعمل إلي جواره كمستشار للأمن القومي وكوزير للخارجية‏,‏ وموضع ثقته الكاملة‏,‏ وهو الذي استطاع أن يمرر ببراعة التحقيقات حول الأخطاء الأمريكية في حرب فيتنام‏.‏


وبالإضافة إلي ذلك‏,‏ أثارت نيويورك تايمز الشكوك حول قدرة هذه اللجنة‏,‏ أو رغبتها‏,‏ في إجراء تحقيق مستقل‏,‏ دون خوف من عواقب تحدي مؤسسات وأشخاص هم الأكثر نفوذا في واشنطن‏,‏ وإن كان كيسنجر قد أعلن أنه لن يقبل أي قيود علي أعمال اللجنة في السير في التحقيق بحرية ودون قيود علي أعمالها أو مراعاة لأي اعتبار‏,‏ ولتأكيد ذلك قال كيسنجر إنه قرر قطع علاقاته بمجموعة كيسنجر للبزنس والاستشارات‏,‏ التي تحقق له أرباحا هائلة‏,‏ بل وأعلن أنه قرر قطع علاقاته الشخصية مع أصحاب النفوذ في السلطة الحاكمة‏.‏ ولكن لم يصدقه احد‏.‏

أما السيناتور السابق جورج ميتشل فهو ـ كما قالت نيويورك تايمز ـ يتمتع بخبرة عظيمة ودراية واسعة بما يجري في أمريكا وفي العالم‏,‏ وهو في الوقت نفسه لم يكن أبدا من الشخصيات التي تسبب إزعاجا لمؤسسات ورجال الحكم‏..‏ وتقول نيويورك تايمز إن قيام كيسنجر وميتشل وبقية أعضاء اللجنة يتطلب الارتفاع فوق العوائق والمساومات المعروفة في واشنطن‏,‏ وإذا نجح الرجلان في مهمتهما الصعبة فسوف يساعدان الولايات المتحدة في الشفاء من الجراح العميقة التي أحدثتها هجمات سبتمبر‏,‏ وسيكون في ذلك الضمان بعدم تكرارها‏..‏


ونضيف إلي ما قالته نيويورك تايمز‏:‏ لو ظهرت الحقائق فسيكون ذلك نهاية لمرحلة القلق التوتر والمآسي التي يعيشها العالم الآن‏..‏ ويعانيها العرب والمسلمون بصفة خاصة‏..‏

لكن ذلك يبدو مستحيلا بدليل ان كيسنجر نفسه قدم استقالته‏.!


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف