الرئيس كارتر يتكلم
ثيرا ما تساءل القادة والسياسيون في العالم: ما رأي الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الذي تميز بالحكمة والرؤية الاستراتيجية الصائبة وجعل للسياسة الأمريكية مصداقية, ودخل التاريخ باعتباره مهندس التحول التاريخي وصانع السلام في الشرق الأوسط.؟
وبعد صمت طويل تكلم كارتر, وأعلن رأيه في سياسات الإدارة الأمريكية الحالية في مقال في واشنطن بوست يوم6 سبتمبر الحالي بعنوان وجه أمريكا الجديد المزعج قال فيه: إن تغييرات جذرية تحدث الآن في السياسات التقليدية لأمريكا فيما يتعلق بحقوق الإنسان, ودور أمريكا في المجتمع الدولي, وعملية السلام في الشرق الأوسط, دون حوار أو مناقشات إلا في داخل الإدارة أحيانا, وإذا كانت سياسات الرئيس بوش بالنسبة لمأساة11 سبتمبر يمكن تفهمها, إلا أن الاتجاهات الأخري يبدو أنها من صنع مجموعة من المحافظين تسعي إلي تحقيق أطماعها المكبوتة منذ فترة طويلة تحت غطاء الحرب ضد الإرهاب.
ويقول الرئيس كارتر: إن دولتنا كانت في السابق موضعا لإعجاب العالم لأنها كانت النصير الأكبر لحقوق الإنسان والقاعدة للمنظمات الدولية المحترمة المهتمة بالمبادئ الأساسية للديمقراطية, والآن نتجاهل ما يحدث من قمع في الدول التي تساندنا في العمل ضد الإرهاب, ونقوم بإلقاء القبض علي المواطنين الأمريكيين باعتبارهم مقاتلين في صفوف العدو, ونلقي بهم في السجون سرا ولأجل غير محدد دون توجيه أية تهمة إليهم أو منحهم حقهم في الوصول إلي محام, وقد أدانت المحاكم الفيدرالية هذه الإجراءات, لكن وزارة العدل تتعامل معها بعناد.. ولا يزال مئات من أفراد طالبان مسجونين في جوانتانامو في ظروف قاسية, ووزير الدفاع رامسفيلد يعلن أنه لن يتم الإفراج عنهم حتي لو تمت محاكمتهم يوما ما وثبتت براءتهم, وذلك ما يحدث في نظم الحكم الاستبدادية المتعسفة التي أدانها رؤساء أمريكا علي مدي التاريخ.. ومع أن الرئيس بوش يبدو متحفظا إلا أن ادعاءات نائبه والمسئولين الكبار حوله تتوالي عن التهديد المدمر لأمريكا من أسلحة العراق للدمار الشامل, والتعهدات بالإطاحة بصدام حسين سواء بمساندة الحلفاء أو بدونها.. وحلفاء أمريكا وقادتها وكبار المسئولين في الإدارات السابقة يؤكدون أنه لا يوجد خطر حقيقي الآن من العراق علي الولايات المتحدة, وأن التفوق العسكري الأمريكي الكاسح يجعل أي خطوة يقوم بها صدام حسين ضد دولة مجاورة, أو بإجراء أصغر اختبار نووي( وهو أمر لابد منه قبل تطوير الأسلحة), وأي تهديد حقيقي باستخدام أسلحة الدمار الشامل, أو المشاركة مع المنظمات الإرهابية في امتلاك أو استخدام هذه الأسلحة.. أي خطوة ستكون خطوة انتحارية لصدام حسين وللعراق, ولكن ربما يكون من المحتمل ـإلي حد ماـ أن يستخدم مثل هذه الأسلحة ضد إسرائيل أو ضد القوات الأمريكية إذا اضطر للرد علي أي هجوم أمريكي! ولذلك فإن شن أمريكا الحرب منفردة علي العراق ليس الحل, والأمر الملح الآن أن تتولي الأمم المتحدة فرض التفتيش علي العراق دون شروط.
ويقول كارتر: لقد تخلينا عن الالتزامات الأمريكية في الاتفاقيات الدولية وأبدينا اعتراضات متعجرفة علي اتفاقيات حظر انتشار الأسلحة النووية واتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية, واتفاقية كيوتو الخاصة بالحماية البيئية, ورفضنا الاقتراحات بإدانة التعذيب ومحاكمة مجرمي الحرب, ووجهنا التهديدات بفرض العقوبات الاقتصادية ضد من يختلفون معنا, وهذه الأفعال الأحادية تؤدي إلي عزل الولايات المتحدة حتي عن الدول التي تحتاج إليها أمريكا للاشتراك معها في محاربة الإرهاب.
ويقول كارتر أيضا: إن حكومتنا تتخلي بشكل مأساوي عن دور الراعي لمباحثات السلام الفلسطينيةـ الإسرائيلية, وأصبحت سياستنا الظاهرة مساندة كل عمل تقوم به إسرائيل في الأراضي المحتلة, وإدانة وعزل الفلسطينيين واعتبارهم هدفا في حربنا علي الإرهاب, والسكوت علي التوسع في بناء المستوطنات الإسرائيلية علي حساب الأراضي الفلسطينية, ويبدو أن هناك صراعا مازال قائما داخل الإدارة حول تحديد سياسة أمريكية شاملة تجاه الشرق الأوسط, ولذلك فإن تعهدات الرئيس بوش بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة والالتزام بإقامة دولة فلسطينية تناقضها تصريحات وزير الدفاع بأنه لن يتم في حياته إقامة أي كيان كهذا, وحديثه عن الاحتلال الإسرائيلي بأنه هذا الذي يسمي احتلالا! وهذا يدل علي انحراف جذري عن سياسات الإدارات الأمريكية جميعها منذ عام1967 القائمة باستمرار علي انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة, وإقامة سلام حقيقي بين الإسرائيليين وجيرانهم.
يقول كارتر: الآن يبدو أن الأصوات الداعية إلي الحرب والمثيرة للخلاف هي الأصوات المهيمنة في واشنطن, وهي لا تعكس القرارات النهائية للرئيس بوش, أو الكونجرس, أو القضاء الأمريكي.. ولابد أن تكون السيادة للتعهدات الأمريكية التاريخية الراسخة الخاصة بالسلام والعدالة وحقوق الإنسان والتعاون الدولي وحماية البيئة.
وكلمات الرئيس كارتر المحددة الواضحة تعني أن العقل والحكمة مازال لهما مكان في الساحة الأمريكية المضطربة المليئة بالمخاطر, وأن الأمل مازال قائما في أن تثوب الإدارة الأمريكية إلي الصواب لإنقاذ العالم من المواقف الجامحة والعدوانية في أمريكا وإسرائيل.
أما في أوروبا فان الانتقادات للسياسات الأمريكية وصلت إلي حد الهجوم, كما فعلت وزيرة العدل الألمانية هيرتا دوبلر التي قالت إن الرئيس الأمريكي يهدف بحملته هذه إلي أن يصرف الانتباه عن مشكلاته الداخلية, وقالت أخيرا: أن هذا التكتيك الكلاسيكي هو ما كان يستخدمه هتلر.
وفي بريطانيا أعلن اندرو ماك بجامعة كولومبيا البريطانية باسم عدد من أساتذة الجامعات أن علي الإدارة الأمريكية أن تبحث عن طريق آخر غير الذي تسير فيه لتغيير العالم, وذلك في مقال نشرته صحيفة هيرالد تريبيون, وقال فيه أن صقور أمريكا هم الذين يتولون القيادة الآن, بينما لا تحظي سياسة الحرب التي يخطط لها البنتاجون بمساندة في أوروبا فيما عدا بريطانيا, والعالم العربي متأثر بموقف الإدارة الأمريكية في دعم الاعتداءات الاسرائيلية, ولا تجد الإدارة الأمريكية الشرعية الدولية التي وجدتها في حربها في افغانستان, وقد تتطور الحرب في العراق وتجد القوات الأمريكية نفسها مضطرة لمواجهة حرب الشوارع التي تسبب خسائر واصابات اكبر مما تتوقع, وأخيرا من المحتمل أن تشعل هذه الحرب المنطقة وتحل فيها الفوضي وتشعل الغضب الأرهابي الذي تسعي واشنطن إلي قمعه..
أصوات المعارضين والمحذرين للإدارة الأمريكية أكثر من المؤيدين.. والقيم الديمقراطية الأمريكية تفرض عليها أن تستمع إلي الرأي الآخر ولا تفرض ارادتها ضد إرادة العقلاء في أمريكا وضد إرادة عقلاء العال